نحنُ والنمسا.. قصة أول سفارة مغربية في فيينا
انطلقت قبل 239 سنة مع السفير محمد بن عبد الملك
«عمر الفاسي والعلامة أبو عبد الله بن قاسم جسوس والقاضي عبد القادر أو خريص والشيخ التاودي ابن سودة وغيرهم هم نخبة من العلماء المغاربة الذين كانوا بمثابة مستشارين دائمين في القصر الملكي في فاس. وهؤلاء هم الذين رشحوا للمولى محمد بن عبد الله نخبة السفراء المغاربة الذين شقوا البحر في اتجاه عواصم الدول الأوربية.
وعندما اختار سفيره محمد بن عبد المالك ليترأس السفارة التاريخية الأولى من نوعها إلى النمسا، فقد نتج عن تلك السفارة تبادل السلطان محمد الثالث رسائل ودية مع ملك النمسا جوزيف الثاني، ربط الملكان عبرها صداقة متينة. حتى أنهما توفيا في السنة نفسها، حسب ما جاء في وثائق الأرشيف. إذ إن السلطان محمد الثالث توفي سنة 1790، في شهر أبريل، ناحية وادي الشراط عندما كان في رحلة تفقدية، وهي السنة نفسها التي توفي فيها ملك النمسا جوزيف الثاني وبالضبط في شهر فبراير، أي قرابة شهرين قبل وفاة السلطان محمد الثالث، ليخلفا معا بصمة على العلاقات بين البلدين، دشنت في عهدهما بعد سلسلة من الصعوبات السياسية»
يونس جنوحي
هكذا دخل السفير محمد بن عبد الملك التاريخ
أول سفير مغربي ذهب إلى النمسا وحل ضيفا فوق العادة على مدينة «فيينا» يوم 25 أبريل 1783، كان هو السفير المغربي محمد بن عبد الملك. هذا الرجل المخزني، الذي كان في السابق خليفة سلطانيا في مدينة طنجة على عهد المولى محمد الثالث، كان وراء استقبال عدد من الدبلوماسيين الأجانب أثناء قدومهم إلى المغرب وسهر على ترتيب أمور سفرهم إلى قصر فاس ومكناس للقاء السلطان.
هذا الرجل لم يكن ربما يتوقع أن يصبح أحد السفراء الذين كتبوا أسماءهم في لائحة أهم سفراء المملكة الذين شهدوا لحظات تاريخية بأهمية حلول أول وفد دبلوماسي مغربي في النمسا، في عز اتفاق الدول الأوربية على اتفاقيات التجارة مع المغرب.
كان ملك النمسا الذي وصل إلى الحكم قبل سنوات قليلة فقط على تلك الزيارة، يرغب في أن تربط النمسا اتفاقيات حصرية في التبادل التجاري مع بوابة إفريقيا. لذلك وقع الاختيار على محمد عبد الملك بصفته ممثلا سلطانيا في طنجة، والتي انطلق منها في رحلته إلى النمسا بحرا، بمعية وفد ضخم ضم عشرات الشخصيات المخزنية المغربية بالإضافة إلى مترجم وضعته النمسا رهن إشارة الوفد المغربي، سبق له تقديم رسالة من النمسا إلى السلطان محمد الثالث، وبموجب ذلك الاتصال الأولي الذي أبانت فيه النمسا عن استعدادها لبدء صداقة مع المغرب تتوج باتفاقيات في التجارة ومعاهدة سلام، أمر السلطان بترتيب رحلة سفارة مغربية يترأسها محمد عبد الملك، لكي تحل في النمسا وتقدم هدايا ثمينة من المغرب إلى قصر فيينا. وهي السفارة التي تحدث عنها أرشيف الملكية في النمسا بكثير من الإطناب حيث أشاد النمساويون بلباس السفير المغربي وأخلاقه وحرصه على أداء الصلوات اليومية واستئذانه وسط الاحتفالات الرسمية التي خصصت لاستقبال الوفد المغربي للانسحاب لأداء الصلاة.
السفارة المغربية إلى النمسا لم تكن أول سفارة إلى بلد أوربي. فقد سبق منذ عهد المولى إسماعيل أن حل سفراء مغاربة في دول أوربية أهمها بريطانيا وهولندا وفرنسا، لكي يقدموا رسائل من السلطان المولى إسماعيل، والد السلطان عبد الله الذي نقل الحكم إلى السلطان محمد الثالث. أي أن هؤلاء السفراء لم يكن يفصل بينهم وبين محمد عبد الملك سوى جيل واحد فقط، ومن المرجح أن يكون هذا السفير الذي ورد أنه اشتغل ممثلا سلطانيا للسلطان عبد الله ابن المولى إسماعيل، قد عاصر سفراء المولى إسماعيل، وأشهرهم السفير ابن عائشة ومحمد بن حدو العطار. وهما سفيران دشنا للدبلوماسية المغربية وكانت سفارتاهما إلى كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا، أولى الرحلات الدبلوماسية المغربية. حيث كانت أجواء تلك السفارات إلى الخارج لا تخلو من طرائف، إحداها أن الوفد المغربي عندما حل في فرنسا، التي وصل إليها بحرا، فضل أن يبقى في الباخرة الفرنسية التي أقلت السفير العطار لكي يستقبله الملك لويس في باريس إلى أن تتم المناداة عليهم لموعد الاستقبال، حيث مكثوا شهرا في الانتظار، ولم يتبين للفرنسيين أن الوفد المغربي كان يرفض النزول إلا بعد مدة، والسبب كان عدم قدرة أعضاء الوفد المغربي على مقاومة البرد الشديد للمدن الأوربية، حيث لم يكونوا معتادين على تدني درجات الحرارة، ولم يكونوا مستعدين للجو البارد بحكم أنهم غادروا المغرب وتركوا جوا معتدلا في بدايات دخول فصل الشتاء.
وإذا كان السفير المغربي محمد بن عبد الملك وصل إلى النمسا في نهاية أبريل، أي أنه لم يعان من مشاكل في الجو، فإن رحلته لم تكن لتخلو من مشاكل، خصوصا وأن الوفد المغربي كان يتنقل بعدد كبير جدا من الأفراد، حسب ما أكده أرشيف الدبلوماسية في النمسا، حيث اضطر الوفد المغربي إلى نقل كميات كبيرة من الهدايا، لتسليمها إلى ملك النمسا باسم السلطان محمد الثالث، وشحنها وإنزالها بحرا وبرا من القصر الملكي في فاس، حيث لجأ الوفد المغربي إلى خدمات باخرة أوربية، وهو ما لم يكن أغلب المغاربة، بمن فيهم كبار المسؤولين في الدولة، معتادين عليه في ذلك الوقت.
مؤسسو الدبلوماسية المغربية المنسيون
في وقت كان فيه الفقهاء المغاربة وبعض المخزنيين الذين تقلبوا في مناصب أهمها القضاء ومنصب «الخليفة السلطاني»، كان هناك أيضا سفراء أسسوا للدبلوماسية المغربية، وجاؤوا إليها من قطاعات أخرى كانوا يفهمون فيها، لتطعيم الدبلوماسية المغربية خصوصا في فترة إبرام الاتفاقيات التجارية. إذ إن القضاة والفقهاء الذين عاش أغلبهم في عهد المولى إسماعيل، لم يكونوا مؤهلين لإدراك «ثغرات» تلك الاتفاقيات. وكان السفير حاييم طولاندو أحد أوائل هؤلاء السفراء المغاربة الذين جاؤوا من بحر التجارة لكي يدخلوا البلاط.
اختلف عدد من الدارسين المغاربة على اسم أول من سافر بحرا لتمثيل المغرب دبلوماسيا في الخارج. لكن حاييم بالتأكيد كان من أوائل الذين قاموا بهذه المهمة، وأطلق عليهم اسم «سفراء الإيالة الشريفة» حيث كانت مثل هذه «السفارات»، وهو الاسم المخزني الذي أطلق على الرحلات من هذا النوع، لا تتم إلا بعد أن يكون من أعضاء الوفد المغربي من يتحدث اللغات الأجنبية. وكان هؤلاء الذين يتولون الترجمة من جنسيات أخرى لكن مهمتهم أساسا تتلخص في الترجمة فقط، بينما يتكلف ممثل السلطان أو «السفير» بتبليغ الرسالة.
دُعي أيضا وفد مغربي إلى بريطانيا أثناء تنصيب إدوارد السابع على عرش المملكة المتحدة، وكان الوفد المغربي رحل إلى لندن من ميناء طنجة عبر سفينة فرنسية إلى الأراضي الفرنسية قبل أن يواصل الرحلة إلى لندن، وهو الأمر الذي كان مزعجا للبريطانيين، إذ لم يكونوا يتقبلون حشر فرنسا لأنفها في علاقاتهم مع المغرب..، خصوصا في الرحلة التي قام بها الحاج الزبيدي، وهو رجل دولة كان يثق به الحسن الأول كثيرا، فأرسله سنة 1876 ليلتقي الملكة فيكتوريا، وقد كتب الإنجليز أنفسهم في جرائد كانت تصدر في لندن وقتها، أن رجلا مسلما جاء للقاء الملكة فيكتوريا ولم يسلم عليها.
أما بخصوص تنصيب إدوارد السابع فقد كان وفد أرسله القصر يتكون من فقهاء يمثلون «السفارة» المغربية في تلك الرحلة التي امتدت لأسابيع زار خلالها الوفد لندن وبعض المناطق الأخرى وتعرفوا على الحضارة البريطانية. ورغم أنهم كانوا فقهاء محافظين، إلا أنهم كانوا مجبرين على جبر الخواطر والجلوس إلى طاولة واحدة مع الأعيان البريطانيين وزوجاتهم خلال حفل العشاء الذي أقيم على شرفهم.
هؤلاء السفراء المغاربة في السنوات الأولى لتأسيس الدولة العلوية، وانطلاق قوتها الإقليمية في عهد السلطان مولاي إسماعيل، كانوا النواة الأولى التي أطلقت إشعاع الدبلوماسية المغربية في وقت كانت دول أوربا العظمى تتسابق للفوز بموطئ قدم في المغرب.
++++++++++++
محمد بن عبد الله.. سلطان تربى في حضن المولى إسماعيل وروّض أوربا
اعتبره المؤرخون أحد السلاطين العلويين الذين بصموا ميدان الخارجية، حيث فتحت في عهده علاقات مع عدد من الدول الأوربية التي كانت بينها وبين المغرب قطيعة بسبب مشاكل «الجهاد البحري». إذ إن الغارات التي تشنها السفن المغربية على السفن التي تعبر البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي، جرت على المغرب عددا من المشاكل الدبلوماسية مع دول تربطها اتفاقيات مع إسبانيا والبرتغال وفرنسا. وهذه الدول كانت تعيش مدا وجزرا مع المغرب منذ أيام المولى إسماعيل سنة 1670.
محمد الثالث، ورث الحكم عن أبيه المولى عبد الله، ابن المولى إسماعيل. وورث معه مشاكل ما بعد فترة 1727، تاريخ وفاة المولى إسماعيل، حيث انقسم أبناؤه ونشبت بينهم صراعات كبيرة حول الحكم، وتحولت مكناس إلى حلبة صراع سياسي.
لكن محمد بن عبد الله نجح في حسم صراع أبناء عمومته، وتولى الحكم بعد والده ليطلق سياسة جديدة من تحسين العلاقات مع الدول الأجنبية. واشتهر بأنه أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية وربط علاقات دبلوماسية مع واشنطن، في الفترة نفسها التي رفض فيها بالمطلق استقبال الروس في المغرب وعلل الأمر بأنه لا يمكن أن يضع يده في يد دولة تحارب العثمانيين. إذ عرف عن المولى محمد بن عبد الله أنه كان منتصرا للقيم الإسلامية وكان له الفضل في تجنيب ليبيا حربا كبيرة ضد الولايات المتحدة الأمريكية بسبب هجوم قبائل ليبيا التي تعيش في السواحل على بوارج أمريكية كانت تعبر البحر الأبيض المتوسط.
وحسب ما تورده بعض المراجع التاريخية، فإن محمد الثالث فتح عينيه في قصر مكناس على ظاهرة ذكر أخبار «السفراء» الذين أرسلهم جده المولى إسماعيل إلى فرنسا وإسبانيا، خصوصا السفير ابن عائشة والسفير بن حدو، اللذين كانا من أشهر السفراء المغاربة الأوائل باسم سلاطين الدولة العلوية للقاء ملوك الدول الأوربية وعلى رأسها هولندا وفرنسا وبريطانيا ثم الإسبان والبرتغال الذين كانوا في حرب ضد المغرب ولم تكن اللقاءات النادرة بينهم وبين السفراء المغاربة تتعدى تباحث تبادل الأسرى وتوقيع فترات الهدنة.
وبحكم أن السلطان محمد الثالث كان قد حرر منطقة الجديدة (مازاغان) من قبضة البرتغال سنة 1765، وتمكن من هزيمة الفرنسيين الذين حاولوا قصف العرائش في الفترة نفسها، وحسم المعركتين لصالح المغرب، لتكون فترة حكمه واحدة من الفترات التي كان المغرب فيها قويا من الناحية الدبلوماسية. لذلك كانت علاقته مع بعض الدول الأوربية طيبة، أهمها العلاقات التي ربطها مع بريطانيا ثم مع النمسا. إذ كانت الدولتان تريان في المغرب قوة إقليمية بدأت مع محمد الثالث الذي وصل إلى الحكم على أنقاض خلافات أعمامه على السلطة، واستطاع أن يرغم دولا أوربية أهمها فرنسا والبرتغال على مراجعة سياستها مع المغرب.
كيف تحول سلطان المغرب وملك النمسا إلى صديقين؟
جاء في أرشيف مجلة «دعوة الحق»، التي أشرفت عليها وزارة الأوقاف وكتب فيها كبار الفكر المغربي من مؤرخين وفقهاء ومطلعين على أرشيف الخزانة الملكية، بخصوص المولى محمد الثالث، ما يلي: «ولما طلع على عرش المغرب وسع دائرة علائقه بالدول الأجنبية وبنى سياسته الخارجية على مبادئ سامية ثابتة جعلت منه أحد أقطاب السياسة العالمية في وقته بما نادى به من وجوب القضاء على أسباب الحرب واسترقاق البشر بوجود تعويض ذلك بربط العلائق السلمية التجارية والاقتصادية بين الشعوب.
ولتكون كلمته مسموعة في الميدان الدولي اعتنى بتقوية بحريته بتنظيم شؤونها وبناء السفن الكبيرة واتخاذ العدة الراقية وتعيين أمراء البحر الأكفاء. ثم أخذ يوجه السفراء إلى بلاد أوربا وإلى المشرق حتى لم يعهد المغرب نشاطا ديبلوماسيا مثل ما شهده أيام سيدي محمد بن عبد الله، ومن أشهر سفرائه الكاتب الغزال والوزير ابن عثمان المكناسي وأبو القاسم الزياني وقد كتب هؤلاء السفراء عدة رحلات وصفوا فيها البلاد التي زاروها كإسبانيا وإيطاليا، والنمسا ومالطا وغيرها». هذا المقتطف من ورقة علمية نُشرت في العدد 96 من هذه المجلة المتخصصة، حيث تطرقت إلى أهم إنجازات المولى محمد الثالث.
أين توجد نصوص مشاهدات هؤلاء السفراء المذكورين في هذه الفقرة؟ بعض المصادر تقول إن أرشيف هؤلاء السفراء الذين كان معهم كتاب رافقوهم في تلك الرحلات، يوجد في مخطوطات بقيت لأزيد من قرنين في أرشيف جامعة القرويين، حيث وصلت إليها من خزانات أولئك الكتاب أنفسهم إذ نقل أغلبها إلى هناك بعد وفاة هؤلاء الكتاب الذين عاشوا في عهد السلطان محمد الثالث.
ومن الأمور المهمة التي ارتبطت بشخصية السلطان محمد الثالث، أنه أحاط نفسه بالعلماء، وهو ما جعل اختيار السفراء إلى الدول الأجنبية أمرا سهلا، حيث اختار السلطان أبرز علماء تلك الفترة. جاء في مجلة «دعوة الحق»، في المقال نفسه أعلاه، ما يشرح علاقة السلطان محمد بن عبد الله بالعلماء منذ توليه الحكم: «فلما توفي والده مولاي عبد الله تسارع أهل الحل والعقد بالعاصمة الفاسية إلى مبايعته وعلى رأسهم كبار العلماء كأبي القاسم العميري وأبي حفص الفاسي والشيخ التاودي ابن سودة ومحمد بن قاسم جسوس وأبي مدين الفاسي وهو الذي تولى إنشاء البيعة وكتابتها بيده وذلك يوم الاثنين 25 صفر 1171 هـ.
وكان سيدي محمد في الثامنة والثلاثين من عمره وقد حنكته تجارب الحكم وكان من الساسة الموقعين ومن رجال الإصلاح الملهمين، فلما جلس على عرش إسماعيل أخذ يدير أمره بحكمة وحزم ونظام يشمل سائر النواحي الداخلية والخارجية. فكأنه وضع برنامجا مفصلا وأخذ يطبعه فصلا فصلا مبتدئا بالأهم فالمهم.
ولا شك أن أول ما يجب الاعتناء به في سياسة الأمم هو حفظ كيانها، ولا يتأتى إلا باتخاذ الجيوش المنظمة وآلات الحرب الراقية، وذلك متوقف على المال، فتكون إذن السياسة المالية هي أول الواجبات وذلك ما فعله سيدي محمد، بل ذلك ما كان يهتم به قبل مبايعته، وهو سبب نجاحه في خلافته بالجنوب.
وهكذا نراه يوجه عنايته بعد مبايعته وقدومه من مراكش إلى فاس في أول ما اعتنى به إلى هذه الناحية، فأحدث ضرائب غير مباشرة كانت تسمى في الاصطلاح المالي المغربي «المكس».
وقبل الإقدام على إحداث هذا المكس بفاس وبسائر مدن المغرب استفتى علماء فاس في ذلك فأفتوه بأن السلطان أن يوظف على الرعية مالا تدفعه ليستخدم به الجند للدفاع عن بيضة الإسلام، ومن أفتى بذلك من علماء وقته الكبار الإمام أبو حفص عمر الفاسي والعلامة أبو عبد الله بن قاسم جسوس والقاضي عبد القادر أو خريص والشيخ التاودي ابن سودة وغيرهم».
هؤلاء العلماء هم الذين رشحوا للمولى محمد بن عبد الله نخبة السفراء المغاربة الذين شقوا البحر في اتجاه عواصم الدول الأوربية.
وعندما اختار سفيره محمد بن عبد المالك إلى النمسا، فقد نتج عن تلك السفارة تبادل السلطان محمد الثالث رسائل ودية مع ملك النمسا جوزيف الثاني، ربط الملكان عبرها صداقة متينة. حتى أنهما توفيا في السنة نفسها حسب ما جاء في وثائق الأرشيف. إذ إن السلطان محمد الثالث توفي سنة 1790، في شهر أبريل، ناحية وادي الشراط عندما كان في رحلة تفقدية، وهي السنة نفسها التي توفي فيها ملك النمسا جوزيف الثاني وبالضبط في شهر فبراير، أي قرابة شهرين قبل وفاة السلطان محمد الثالث، ليخلفا معا بصمة على العلاقات بين البلدين، دشنت في عهدهما بعد سلسلة من الصعوبات السياسية.
الملك النمساوي جوزيف الثاني يثير إعجاب المغرب بإلغاء قانون العبودية
عندما وصل الملك جوزيف الثاني إلى الحكم في النمسا سنة 1780، كان السلطان محمد الثالث أنهى وضع اللمسات الأخيرة على الإصلاحات الضريبية والجبائية التي أعاد من خلالها دعم تحركات الجيش المغربي لحماية الحدود.
وهكذا كانت فرص أن يربط المغرب علاقات مع دولة النمسا غير واردة، على الأقل قبل وصول الملك جوزيف الثاني إلى السلطة. بحكم أن النمسا كانت من الدول الموقعة على اتفاق مع دول أوربية أخرى بشأن العلاقة مع المغرب، خصوصا وأن السلطان محمد بن عبد الله كان قد ورث ملفا ثقيلا جدا عن والده يتعلق بالأسرى الأجانب في مكناس وفاس.
وما أظهر حسن نية المولى محمد الثالث أنه بعد الانتصار على القوات الفرنسية ومنعها من دخول العرائش، أعلن الهدنة مع دول أخرى. وكان اتفاق مدريد بين الدول الأوربية إحدى أهم المحطات في تاريخ العلاقات المغربية بدول أوربية في فترة حكم المولى محمد الثالث.
جوزيف الثاني في النمسا ورث بلدا يعاني وقتها من تبعات مشاكل وصراعات بين الطبقات الاجتماعية فلجأ إلى سن تعديلات من أهمها إلغاء العبودية. ووصلت الأخبار إلى المولى محمد الثالث فسجل إعجابه بمبادرات ملك النمسا الجديد، خصوصا أن فيينا كانت حاضرة بقوة في السياسات الأوربية.
كيف أرسل إذن المولى محمد الثالث سفيره محمد بن عبد المالك إلى فيينا؟ هناك رواية تاريخية تسلط الضوء على سياق تلك الزيارة ومفادها أن النمسا أرسلت سفيرا ومعه مترجم وبعض ممثلي المصالح التجارية للنمسا، لكي يستقبلهم السلطان في قصر فاس، وبناء على تلك السفارة النمساوية، قرر السلطان محمد الثالث أن يرسل سفارة بدوره إلى فيينا لتبادل النوايا الحسنة وتسليم هدايا من السلطان محمد الثالث إلى الملك جوزيف الثاني، سنة 1783. وحرص السلطان محمد الثالث على أن تكون سفارته إلى فيينا تاريخية بكل المقاييس، حيث أرسل بعثة ضخمة يفوق عدد أفرادها بكثير عدد أفراد السفارة الأولى التي أرسلتها النمسا إلى المغرب. حيث وصلت السفارة المغربية في 25 أبريل من تلك السنة واعتبر الأمر حدثا كبيرا في فيينا، بحكم أن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والنمسا كانت قد تأسست في تلك اللحظة، في ظرف تاريخي غير مسبوق، بحكم أن النمسا كانت تريد البحث عن توطيد علاقات بالدول التي تشكل موضوع منافسة بين دول أوربا الأخرى، وبحكم أن المولى محمد الثالث كان يقود المغرب في سياق دولي مختلف، وأبرم مجموعة من الاتفاقات وتبادل الزيارات مع الدول العظمى التي تقود العالم.
الملك جوزيف الثاني يعتبر أحد ملوك النمسا الذين بصموا على حياة سياسية في البلاد، إذ ورث بلدا منقسما في الاختيارات السياسية ولم يكن لديه عامل استقرار سياسي ولا اقتصادي، خصوصا أن موقع النمسا وقتها لم يسمح لها بمنافسة دول مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وهو ما جعل الملك جوزيف الثاني في موقع لا يُحسد عليه، خصوصا وأن الدول التي تربطه معها حدود جغرافية، كانت قد تقدمت كثيرا في ربط الاتفاقيات التجارية مع دول من بينها المغرب، في إطار السباق نحو الانفتاح على الأسواق واستيراد المواد الأساسية التي أعطت انطلاقة الاقتصاد الأوربي في مجال الصناعة.
ما مصير أرشيف أولى السفارات المغربية إلى فيينا؟
لا يزال نص الاتفاق الذي أبرمه السفير المغربي محمد بن عبد المالك مع الملك جوزيف الثاني في فيينا موجودا في الأرشيف الرسمي للخزانة الملكية بالرباط. وثيقة يعود تاريخها إلى 239 سنة قبل اليوم، وتؤرخ لاتفاقين مهمين: الأول تجاري والثاني عسكري.
إذ إن النمسا حاولت سابقا الفوز باتفاق تجاري مع المغرب، في إطار تقليد الدول الأوربية الكبرى التي راكمت اتفاقيات من هذا النوع مع مدن المغرب الساحلية، لكن السلطان محمد الثالث منح النمسا هذا «التشريف» عندما كلف سفيره إلى فيينا، محمد بن عبد المالك، بإبرام اتفاق تجاري بين البلدين يتمكن بموجبه كبار التجار النمساويين من ربط صفقات تجارية مع تجار مغاربة، وأن تتم معاملتهم معاملات تفضيلية في الموانئ المغربية.
الاتفاق الثاني كان يتعلق بالشق العسكري. إذ إن السلطان محمد الثالث سبق له إبرام معاهدات مع دول أوربية لبدء صفحة جديدة مع المغرب، وكان الاتفاق مع النمسا، والذي كان الأول من نوعه، بداية علاقة ودية بين البلدين، على أساس أن يكون الملك جوزيف الثاني مراعيا للمصالح المغربية. إذ لم يكن وقتها مستبعدا أن يدخل المغرب فترة توتر مع فرنسا والبرتغال، البلدين الأوربيين اللذين بقيت علاقتهما مع المغرب في عهد المولى محمد الثالث متوترة، بسبب تطورات مناوشات بين السفن الفرنسية والبرتغالية ونظيرتها المغربية على السواحل. والاتفاق المغربي النمساوي كان يعني ضم المغرب صوتا إضافيا إلى لائحة الدول الكبرى التي تعترف بسيادة المغرب على حدوده الإقليمية واحترامها من طرف السفن التجارية والعسكرية لتلك الدول أثناء عبورها المياه المغربية.
المثير أن بعض النصوص التاريخية المرتبطة بسفارة محمد بن عبد المالك، الذي رافقه كتاب خاصون وقضاة ونخبة من موظفين مخزنيين يمثلون معه السلطان محمد الثالث لدى الملك جوزيف الثاني، لم تحظ بالعناية الكافية لكي تستقر في رفوف الأرشيف الرسمي. وقد اعترف الرئيس السابق لجامعة محمد الخامس بالرباط، محمد الفاسي، في إحدى الندوات التي نظمت في الجامعة خلال سبعينيات القرن الماضي، بأن مصير بعض الوثائق المرتبطة بأول سفارة مغربية إلى النمسا بقي مجهولا، والسبب أن بعض العائلات المخزنية لم تحافظ على وثائق الوزراء والموظفين المخزنيين الذين كتبوا عن السفارة الأولى إلى فيينا، أو احتفظوا بنصوص نسخ عن اتفاقيات كانوا طرفا في إبرامها بين البلدين، أو أن تلك الوثائق بقيت في أرشيف بعض المكتبات العائلية، ولم يتم تسليمها إلى مؤسسة أرشيف المغرب أو الخزانة الملكية، إلا أخيرا فقط.