شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفنحوار

نبيل منصر  للأخبار: نحن في آنٍ واحدٍ ورثة المراثي والحياة

 

تميّزت التجربة الشعرية لنبيل منصر بالاشتغال الثابت على قصيدة حيّة تنمو وتتطور من خلال خط تصاعدي يمزج الشعر بالمعرفة، التأمّل والنظر وتستدعي في صمتها أدواتها وبنيانها الأساسي ومفرداتها الشعرية في تأنٍ وصبر في وجه ضوضاء العالم وأسئلته الوجودية الحارقة، أو على حدّ قول الشاعر نبيل منصر: «تكوين الشاعر الذي  يَنبَغي أنْ يَدفَعَ بِاسْتعداداتِه الفِطرِيَّة والميتافيزيقية إلى ذِرْوةِ تَفجُّرها، مِن خِلال التَّحصيلِ والتَّحويلِ، وما يُمكنُ أنْ يَترتَّبَ عنهُما مِن اختراقٍ يَجعَلُ التجربة الشِّعريةَ الشَّخصيةَ مُنبثِقة مِن تاريخها ومُخترِقةٍ، على نَحْوٍ عُمودي، لِلشِّعرية العَربية والكونية. المَسألةُ إذن، وفق هذا المنظور، تَندرج بالنسبة لي في نَوعٍ مِن المَعرفة اليَقظة، التي بإمكانِها استدعاء حتى جُذورها الثقافية البعيدة، اللاواعية منها الكفيلةِ بِتفجيرِ الشِّعرِ وتَوسيعِ مُمتلكاتِه وأصدائِه الإنسانيةِ المُتعدِّدةِ الأبعادِ والرّوافد»..

وفي هذا الإطار تعززت تجربة نبيل منصر بالتتويج بالعديد من الجوائز، من أهمّها جائزة المغرب للكتاب صنف الشعر، عن ديوان «أغنية طائر التم» وحصلت على جائزة «فرناندو دالميدا العالمية للشعر» سنة 2023 التي يمنحها مهرجان «الأنهار الثالثة» بكندا. في هذا الحوار نقف عند كيفية تحقق الجمع بين الشاعر والناقد، والمسار الشعري من «غمغمات قاطفي الموت» إلى «من الأزل إلى الأبد»، وكيف تنبني فكرة الكتاب الشعري، وتيمة الموت وحضورها الكثيف…

 

أنتَ تُقيم بين الشاعر والناقد، كيف تحقق الهدنة بينهما، أو على الأقل، كيف تَرسُم الحدود بينهما؟ بين الشاعر في مجموعاته الشعرية والباحث والناقد في «الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة» أو «شعرية البجعة» على سبيل المثال؟

هذه الإقامةُ البَينيةُ ليسَتْ كذلك، إلا لِكَونِها، بِالنَّسبة لي، تَصُبُّ في مَصْلَحةِ الشِّعر وأيضا في بِناء المعرفة الشعرية. الهُدنة، هي بالأحرى، انخراطٌ مَحمومٌ في التجربة الشعرية وفي كُلِّ ما يُغذِّي رَوافدَها الثقافية، ومِن جُملتها المعرفةُ النقدية. أحيلُ هُنا على تَكوين الشاعر الذي يَنبَغي أنْ يَدفَعَ بِاسْتعداداتِه الفِطرِيَّة والميتافيزيقية إلى ذِرْوةِ تَفجُّرها، مِن خِلال التَّحصيلِ والتَّحويلِ، وما يُمكنُ أنْ يَترتَّبَ عنهُما مِن اختراقٍ يَجعَلُ التجربة الشِّعريةَ الشَّخصيةَ مُنبثِقة مِن تاريخها ومُخترِقةٍ، على نَحْوٍ عُمودي، لِلشِّعرية العَربية والكونية. المَسألةُ إذن، وفق هذا المنظور، تَندرج بالنسبة لي في نَوعٍ مِن المَعرفة اليَقظة، التي بإمكانِها استدعاء حتى جُذورها الثقافية البعيدة، اللاواعية منها الكفيلةِ بِتفجيرِ الشِّعرِ وتَوسيعِ مُمتلكاتِه وأصدائِه الإنسانيةِ المُتعدِّدةِ الأبعادِ والرّوافدِ. بهذا المعنى، ما مِن هُدنة بين الخطابات، وإنما تَعبئة عميقة وهادئة ومُثابِرة لِمُختلف مواردها، الواعية منها واللاواعية، لِبلوغ مَرحلة الِاختراق والتوهُّج والإشراق، مع ما يَقتضيه كُلُّ ذلك مِن خبرات شِعرية وأسلوبية وإيقاعية، على مُستوى البِناء والتَّركيب الشِّعري. الحُدودُ أيضا، ضمن هذا المَنظور، غَير مُنفصِلة عن التربية الشِّعرية المُستمِرة، ما دام الشاعرُ بِداخلنا يُراهِنُ على كتابة قصيدةٍ، بِكُلِّ ما تَقتضيه أيضا مِن دَهْشة وَطراوة وكَشف وإيغال. يَتعيَّنُ، هُنا، أنْ يُحوِّل الشِّعرُ كُلَّ المعارف، بما في ذلك المَعرفة النقدية (دون أن تتحول إلى وصفة جاهزة)، إلى قصيدة عظيمة، كاشِفة ومُختلِجة بالأسرار. الحدودُ يقيمها إذن الشِّعرُ، وهو الذي يَخترقُها في آن، صَوْناً لِلدَّهشة الميتافيزيقية والأسئلة الوجودية، التي لا يمكن أن يخلو منها كُلُّ شِعْرٍ يَستحِقُّ الإنتماءَ إلى تاريخه وحاضره ومُستقبله البَعيد.

 

ما بين «غمغمات قاطفي الموت» و«من الأزل إلى الأبد»، كيف تقيس المسافةُ بينهما؟ وكيف كانت رحلة هذا المسار الشعري في تعرجاته وتصاعده؟

هذا السؤالُ كثيفٌ وشاسِعٌ، لأنه يَقيسُ المسافةَ والمَسارَ الشِّعريَّ الشَّخصي، بكل ما يَقتضيه ذلك من نَظرةٍ أورفية مُخيفةٍ إلى الخَلف. الرِّحلةُ بَدأَتْ، كما تَعلَمُ، بِالغمغمات الغامضة التي تَشُقُّ بَذرَتَها في تاريخ بَعيدٍ هُو تاريخ الشِّعْر نَفْسِه، الذي نَحدسه ولا نَستطيعُ أنْ نُسمِّيَهُ، لأنه غير مُنفصِلٍ عَن قلق الإنسان وهواجِسه الأولى، على الأقَلِّ منذ التاريخ الثقافي لِلخَطيئة الأصلية، بِمُتخيَّلِها الذي أتاحَ الكلمةَ الشعريةَ وجَعلَها مُرافِقة لِلإقامة في الأرض وحامِلةً لها. هذا الهاجسُ مَبثوثٌ في هذه الكتابة الشِّعرية الأولى ومُمتَدٌّ في الرُّوح والأنساغ والتَّحقُّقات القادِمة، بِشَكلٍ مُتضافِر مَع  كُلّ ما يُمكِنُ تَسمِيته بالتأويل الغنائي (الأورفي) لِلإقامة في الأرض. كلمتي الشعريةُ التي بَدأتْ غمغمةً ميتافيزيقية تَختَبِرُ الوجود والتجربة الشخصية في العالَم، من زوايا وروافد ثقافية مُتقاطعة، تَستمِرُّ في ذلك من زاويةِ، ليس فحسب الكشف عن أسرار النفس والوجود وجمالهما، غير المُنفصِل عن مأساة الحُب والموت والإرادة، بل أيضا مِنْ زاوية تَوسيع أحياز هذه الأسرار، بما يُحَفزُ أكثر على البحث عن المعنى في الشعر والفن بشكل عام. أعتقدُ أن رحلتي الشعرية، التي ما تزال تنطوي على وعودها وأشواقها الآتية، تَندرجُ كيانيا في هذا المسار المُشع والغامض، الذي يُصبحُ، بِكل تفاصيله واستدعاءاته الوجودية والثقافية واليومية، سند الحياة ومبررها في آن.

 

 

 تقول عن «كتاب الأعمى» إنك كتبته في حالة من الانخطاف المحموم، بهاجس القبض على الكتاب. كيف تتولَّدُ لديكَ فكرة الكتاب الشعري؟ وكيف تنتصر بداخلك امتداداته وتحققه النهائي؟

يَتعيَّنُ التذكيرُ، في سياق هذا السؤال المُهم، بأنَّ «كتاب الأعمى» هو عَملي الشعري الرابع في بيبلوغرافيتي الشعرية، التي بلغت حتى الآن ثمانية إصدارات. بَعْدَ كتابي الثالث «مدينة نائمة»، الذي جَرَّبتُ فيه بكثافة كتابةَ قصيدة نثر شخصية، تَعي شَكلَها ونواةَ بنائها وامتداداتها داخل العمل الشعري ككل، جاءَتْ لحظةُ تَوقيع وإصدار «كتاب الأعمى» بِوَصفِه قصيدة شعرية مُمتدَّة، تَنكتِبُ مِن خلال شَذراتٍ وإشراقاتٍ، لا يَنفصِلُ فيها هاجسُ البِناء عَن هاجس القبض على الكِتاب الشعري كَوَحْدةٍ وكُلِّية، مُنبَثِقة مِن نَواةٍ رثائية، لكنَّها تَنشُرُ جَذاميرَها في تُربَةٍ وُجودية وثَقافِيَّةٍ مُمتدَّة ومُتقاطِعة، وهو ما تَأتَّى مِن خِلال استدعاء تجربة العَمى والرؤيا أو البصيرة الشعرية النفّاذة، التي تُرشِدُنا إلى كَلمةٍ تكونَ بذاتِ القدْرِ عزاءً وورطة في آن واحِدٍ. في الواقع، نحن ورثةُ المَراثي والحياة في وقتٍ واحِد، ونُحوِّلُ ذلك بدورنا إلى هِباتٍ شعرية حِوارية لا تَنقطِعُ وشائجُها وأصداؤُها. في كُتبي اللاحقة، اختلفَ رهانُ تَحقُّقِ الكتاب الشِّعري، ولِذلك يَنْبَغي بِرأيي أنْ نَنظُرَ عَميقا إلى الوشائج الصَّريحة والصامِتة التي تَسِمُ بِناءَ كِتابٍ شِعْريٍّ يَتحقَّقُ عَبر قصائد. وهُنا أحيلُ على أكثر مِن كِتاب، ومِن جُملتها «أغنية طائر التم» لأنّه كُتِبَ هو الآخرُ في حالةٍ مِن الِانخطافِ والمُثابَرة، التي جَنحَتْ بِه إلى صيغةٍ مُغايرة مِن البِناء. عَتباتُ العناوينِ فيه ليستْ سِوى جُسور لِلعبور إلى النُّصوص المُتجاوِرة في أرضٍ شِعرية واحدة. عندما أُوَقِّعُ نُصوصي، فأنا أحمِلُ مَعي هواجسي الوجودية القديمة والمُستَجَدّة، التي لا تَنفصِلُ أبدا عن وَسواس الشَّكلِ الشِّعري،  لأنه يَعني لي الشيء الكثير.

 

تيمة الموت حاضرة بقوة منذ كتابِك الأول، وموزعةٌ، بقدر أو آخر، في بقية أعمالِك الشعرية الأخرى، كيفَ تُضيء لنا هذا الحضور الكثيف؟

فِعلا ثمة حُضورُ كَثيفٌ لتيمةِ المَوتِ في كتابتي الشِّعرية. هذا الحُضورُ هو أكثر مِن تيمة، ولَعلَّه يَرْتفِعُ إلى صيغة وُجودٍ، تَأسَّسَ عَميقا على وِراثَةِ الحياةِ والمَراثي معا. ما مِنْ انفصالٍ بَيْنَ الاثنين، لِأنَّ التآبينَ جُزءٌ لا يَتجزَّأُ مِن الِاحتفال نَفسِه. قَدَمُ الِانسانِ مُنْغرِسَةٌ في المَوت والأُخرى تَطلُبُ الحياةَ وإليها تَهفُو. بَين هذه وتلك، تُقيمُ المَأساةُ والإرادةُ في تركيبٍ مَزْجِيٍّ هو حَقيقة الحَياة ذاتها. الشاعرُ، في سياق كُلِّ ذلك، يُحوِّلُ مَآسيهِ الشَّخصيةِ إلى مَراثٍ وُجودية، تَندرِجُ ضِمْنَ ما سَمَّيتَهُ بالتأويل الأورفي لِلإقامة في الأرض. مِن الناحية الشَّخصية، أنا واحدٍ مِنَ المُستأنِسين الباكِرين بِالمَوْتِ، فقد فقدتُ والدي وأنا لم أكمل ثلاث سنوات من العمر: دُروسُ الحياة الأولى التي تَلقيتُها في صَمْتٍ، كَتبتْها الحياةُ بِحُروف المَوتِ القاسية والغامِضةِ، ثم تَفَتَّحَ لاحِقا وَعْيي على حَقيقةِ المَراثي بِوَصْفها النص الأول الذي يَخْترِقُ الحياة ويَدمَغُها بِأثَرٍ كثيفٍ، يَبقى مُلازِما لِوَجْهِها الحِدادي الكريم. نحن نَعيش، نَكتبُ ونَعمل ونُغَنَّي ونُنجِزُ أعمالا فَنية، في الوقت الذي تَخترِقُ وجدانَنا وأسماعَنا أصواتُ الحِداد القادمة مِن هنا وهناك. شعري يُقيمُ في هذه الأرض، مُحاولا أن يُغَنِّي لِلحياة، وهو ما تُكَثفُه عِبارة «أغنية طائر التم» التي عَنوَنْتُ بها كِتابي الشعري.

 

في كتابك الأخير «من الأزل إلى الأبد» عودة إلى الطبيعة والحياة البرية، وانتساب صريح إلى الشعر الرعوي وإسناد واضح لمكونات الطبيعة بِمختلف أشكالها، كل طاقاتها التعبيرية، وليس على مستواها المعجمي وحده، بل في مستوى اتجاهها إلى ما هو رمزي ومناقض للحياة المدنية المعاصرة. هل كان ذلك بالنسبة لك اختيارا شعريا، أم هو مجرد استنتاج لقراءتك الشخصية؟

تَعرفُ صديقي أنَّ التأويلَ ملكية تامة (وإن كانت مشروطة) لِلقارئ، بِمُجرَّدِ أنْ يَنفصِلَ الكتابُ عَن مُؤلِّفِه ويَندمِجُ في سياق القراءة وتاريخها وهواجسها المتجددة. لذلك، لا يَندَرِجُ ما أقولُه الآنَ في سياق التقويم، وإنَّما إبداء الرَّأيِ في ما تَحتفظُ به اللغةُ الشِّعريةُ مِن حَقيقة، هي جُزْءٌ مِن مُمتلكاتِها وإرادَتِها في الكَشْفِ والإخفاء. تتوهَّجُ، في هذا الكتاب الشعري، عَناصرُ الطبيعةِ أكثر مِن فضاءاتٍ طبيعيةٍ مُندَرجةٍ في سياق رومانسية أو رعوية. وإذ أقول عناصر الطبيعة، فالإحالة تتصل بالعناصر البدئية، الأكثر إيغالا في الوجود، التي يستدعيها الشعر لبناء إقامته على الأرض. هذه الطاقة المتولدة عن هذه العناصر، بتقاطعاتها الثقافية والرمزية، هي التي تدفع باتجاه تأسيس وجود شعري على الأرض، لا تترتب عنه أي نزعة هروبية، بِقَدر ما تتولد عنه لحظة إبداع لا تنفصل فيها أبعادُ الإنسان عَن مَنابِع الحَياة وأسرار الخَلق مِن حَوْلِه. ثمَّة احتفاءٌ بالعالَم والحياة وتَحَمُّلُ المأساةِ بِالبَحْثِ في مَنابِعها الشِّعرية والجَمالية، التي يُمكِنُ أن تَسند وُجودَنا على الأرض، دونما فَصْلٍ بَين حُدودِها الرِّيفية والمَدينِية. لذلك، عَرَّجَتِ الكتابةُ الشِّعريةُ في «مِن الأزل إلى الأبد» أكثر إلى مَسْألة اللغة، وإلى الكَلمة تَحديدا بِمعناها المِيتافيزيقي، عِندَما كانتْ في عُهود التَّسميةِ الأولى غَيرَ مُنفصِلةٍ عَنِ الشَّيء، عَن العالَم الذي تُسمِّيه. هذه الكلمةُ تَستدعيها كثيرٌ مِن نُصوص الكِتاب وتقيمُ في احتمالاتِها الشِّعرية والوجودية، وكأنَّها تَستدرِكُ ما ضاعَ مِن كيانِ الكَلِمَةِ وأصدائِها الوُجودية، على امتدادِ تاريخِها واستعمالاتِها اللاحقة. الكتابةُ هُنا تُمارِسُ نَوْعاً مِن «فقه اللغة» الشِّعْرِي المضاد، الذي يَعود بالكلمة إلى مَنابِعها الوجودية الأولى، قبل أنْ تُورِّطَها الاستعمالاتُ التاريخيَّةُ في البَداهات القاتلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى