حمزة سعود
تعود مافيا الهجرة السرية، من جديد، لتنظيم «رحلات» تهجير سري عبر استعمال الزوارق السريعة. لكن هذه المرة بدأت تركز نشاطها على الشريط الساحلي الممتد بين المحمدية وعين السبع بالدار البيضاء، للانطلاق صوب وجهات أوربية متعددة أقربها الشواطئ البرتغالية.. فاجعة زناتة الأخيرة كشفت تحول المنطقة إلى نقطة عبور صوب الضفة الأوربية. مافيا الهجرة رسمت مسارات جديدة غير خاضعة للمراقبة الأمنية وبعيدة عن مراقبة الدرك، من خلال الاستعانة بوسطاء ونشطاء في مجال النقل السري يُؤَمنون نقل الأفراد عبر الأراضي الفلاحية صوب الشواطئ المتواجدة على طول الشريط الساحلي، ليحمل قارب «فونطوم»، في الأخير، بمحركاته الصامتة، المرشحين للهجرة السرية صوب «المجهول». ارتفعت حصيلة فاجعة زناتة، في أقل من أسبوع، إلى أزيد من 16 شخصا، بعدما لفظت مياه شاطئ «النحلة» بعين السبع جثة، أول أمس الخميس، وسط صدمة في صفوف العائلات بعد أسبوع عن الحادث، وعدم تمكنها من استخراج جثث أبنائها. مزيدا من التفاصيل في الروبورتاج التالي..
بكاء ونحيب وانتظار قاتل.. وعبارات تلخص حال آباء وأقارب فاجعة زناتة.. شاطئ عين السبع الشهير بـ«النحلة» لفظ مع بداية الأسبوع جثث 9 ضحايا، وسط ذهول وصدمة في صفوف من عاين الندوب والتشوهات على أجساد الغرقى. انطلاق المركب المطاطي في رحلته المجهولة، كان ليلة الجمعة، الكل استعد لمواجهة أمواج البحر صوب وجهة أوربية غير معلومة، بعد تشديد العبور سريا من مدن الشمال ولجوء السماسرة ومافيات الهجرة السرية إلى استغلال شواطئ مولاي بوسلهام والقنيطرة والجديدة والشريط الساحلي بين المحمدية والبيضاء، في الوصول صوب أوربا.
وحسب المعطيات التي توصلت بها «الأخبار» من السلطات المحلية، فالقارب المطاطي كان يقل أزيد من 56 شخصا، ومحملا بأطنان من البنزين، تأكد معها لعناصر الدرك الملكي، بمساعدة اعترافات الناجين، أن رحلة القارب الطويلة كانت تمتد لأيام في عرض المحيط الأطلسي، عبورا عبر المياه الدولية، وصولا صوب الشواطئ البرتغالية. قبل الرحلة، توصل «الرايس» المزعوم بحوالي 25 ألف درهم من كل راغب في ركوب «الفونطوم». الانطلاقة كانت من منطقة مديونة التي شكلت، على امتداد 48 ساعة قبل الرحلة، نقطة التقاء للمهاجرين السريين، وتحديدا داخل منزل استأجره «الرايس» لفائدتهم إلى غاية قدوم ساعة الرحيل. جل هؤلاء إلى البيضاء من مدينة قلعة السراغنة ونواحيها، بعدما استقروا بمراكش لسنوات من أجل تحصيل المبلغ المالي المطلوب طمعا في الوصول إلى الأراضي الأوربية، إلى أن قاد القدر عددا منهم نحو الموت المحتوم تحت جنح الظلام وهدير الأمواج العاتية.
انتظار داخل «قاعة للأفراح»
بحنين وشوق، تنتظر أسر وعائلات الضحايا أن تلفظ مياه البحر جثث أبنائها، التي قاومت صعوبة التيارات المائية قبل أن تستسلم.. عائلات انتقلت من ضواحي قلعة السراغنة إلى شاطئي زناتة والمحمدية في انتظار «الفرج». عائلات الضحايا اعتادت الحضور إلى المكان، خلال الساعات الأولى من صباح كل يوم لمتابعة التطورات، عسى أن تطفو فوق سطح المياه جثة غريق سيدفن في التراب عوض بقائه طعما للأسماك.
وأمام هذا الوضع، بادر سكان البرنوصي وعين السبع إلى توفير المؤن الغذائية، لفائدة أسر وعائلات الضحايا، التي أفجعها ما حدث ولم يترك لها سوى الانتظار. من بين المنتظرين في شاطئ النحلة، مساعدان إداريان وآخران لهما دراية واسعة بإجراءات الدفن ونقل الأموات بين المدن، إلى جانب سيارات حرصت على ضمان تنقل الأسر بشكل آمن من قلعة السراغنة صوب البيضاء بشكل مجاني.
المساعدات لم تتوقف عند هذا الحد، بحيث تطوع صاحب قاعة للأفراح لتأمين سقفها لفائدة العائلات والأسر من الحرارة، بعد تعب يوم كامل من الانتظار على أمل أن تطفو جثة غريق ما فوق المياه. من جانبها، تواصل عناصر الوقاية المدنية والدرك الملكي وكذا الأمن الوطني، حملات تمشيطية على امتداد الشريط الساحلي الرابط بين شاطئي بالوما وزناتة وشاطئ النحلة، من أجل إخراج جثث الغرقى بعد أيام من البحث، في ظل الاستنفار الكبير في صفوف الصيادين من خلال اعتمادهم على قواربهم التقليدية.
عودة مافيا الهجرة السرية
أكد صياد يلازم شاطئ «النحلة» بعين السبع، يوميا خلال الليل من أجل صيد السمك، تحول شاطئي «بالوما» وعين السبع إلى نقطة انطلاق لقوارب «الفونطوم» صوب أوربا، وأشار، في حديثه مع «الأخبار»، إلى تنظيم السماسرة ومافيات الهجرة السرية رحلات بحرية للمهاجرين السريين بشكل شبه منتظم من المنطقة. وكشف الصياد، في حديثه، أن رحلة بحرية لمهاجرين سريين أقلعت قبل فاجعة زودياك زناتة، بأسابيع قليلة، من شاطئ عين السبع، وتابع أدق تفاصيلها قبل أن يختفي قارب «الفونطوم» بمحركاته الصامتة داخل المياه. وأشار المتحدث إلى أن قارب الزودياك حينها أقل أزيد من 25 شخصا، في اتجاه أوربا، في غفلة من السلطات المحلية أو العناصر الأمنية وبشكل سري، إلى أن صُدم نهاية الأسبوع الماضي، حسب تصريحه، بخطورة الفاجعة الجديدة. وصرح المتحدث ذاته، الذي رفض الكشف عن هويته، بأن الشريط الساحلي الممتد بين المحمدية وشاطئ النحلة تحول إلى نقطة انطلاق للرحلات صوب أوربا بعد تشديد المراقبة بمدن الشمال والمناطق الحدودية مع الجارة إسبانيا. ولفت الصياد، خلال حديثه، إلى ضرورة تشديد المراقبة بهذه الشواطئ بعد تزايد حدة الهجرة السرية منها صوب أوربا، انطلاقا من الشريط الساحلي بين زناتة وعين السبع، بعد اعتماد مافيا الهجرة السرية على تنويع مسارات واتجاهات الوصول صوب هذه الشواطئ، وكذا اعتماد خطط جديدة لعدم افتضاح نوايا الهجرة. وأكد المتحدث نفسه لجوء هذه المافيات إلى الاستفادة من خدمات الوسطاء في جلب الراغبين في الهجرة السرية، بالإضافة إلى اعتمادها على خدمات نشطاء في مجال النقل السري، يسلكون مسارات وطرقا بين الأراضي الفلاحية بين المحمدية والبيضاء، وصولا إلى هذه الشواطئ، لتجنب مراقبة عناصر الدرك الملكي.
«حريك» بصيغة المؤنث
من ضمن المهاجرين الـ56، لفظ شاطئ زناتة جثة شابة حاصلة على الإجازة في الدراسات الفلاحية، حاولت مساعدة عائلتها بكافة السبل، بعد أن أغلقت في وجهها كافة أبواب العمل، ليتبقى لها، بعد تفكير عميق، طرق باب الهجرة صوب الضفة الأخرى، ولو كان المقابل دفع حياتها ثمنا. ضعف ذات اليد في وسطها العائلي، أجبرها على البحث عن حلول لتحسين ظروف عيش والديها، فالأم كانت تعمل مساعدة داخل حمام نسائي بينما لم تسمح إعاقة الأب في بعث الأمل في نفسية الشابة، في ظل البطالة التي تعانيها أختها الأكبر منها سنا، والحاصلة بدورها على الإجازة.
سلوك الشابة، حسب ما استقته «الأخبار» من أفراد عائلتها، كان مزاجيا خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت الحادث، بحيث كانت تستدين بشكل سري من العديد من الأفراد لحجز «تذكرة» ذهاب على متن «الفونطوم» حتى ولو كانت بدون عودة.
حوالي ثماني شابات كن ضمن قارب «الفونطوم» المتجه عبر المحيط، منهن من تجهل هوياتهن إلى حدود كتابة هذه الأسطر، في انتظار أن تلفظ مياه الشواطئ المجاورة لزناتة جثثهن. في حديث لـ«الأخبار» مع السلطات المحلية، أفادت بوجود احتمالات متعددة حول مسار «الفونطوم»، صوب أوربا عبورا عبر المياه الإقليمية الدولية ووصولا إلى البرتغال، بحيث تأكد ذلك خلال البحث مع المتهمين، وتأكيد كميات البنزين الكبيرة التي جرى حجزها على متن القارب لذلك.
ناج يروي تفاصيل الفاجعة
بصدمة ومرارة، يحكي ابراهيم لحلو، أحد الناجين من الفاجعة، دقائق من الرعب عاشها بعد انقلاب قارب «الفونطوم» بشاطئ زناتة.. حوالي 56 شخصا صارعوا أمواج البحر العاتية تحت جنح الظلام، من ضمنهم أشخاص لا يجيدون السباحة.
قبل انطلاق الرحلة، يؤكد ابراهيم لحلو، الناجي من الفاجعة، أن عددا من المرشحين للهجرة السرية على متن القارب لم يتمكنوا من امتطاء «الفونطوم» بعد امتلائه عن آخره وشحنه بالبنزين، الكل كان «يصلي» من أجل سلامة الرحلة والركاب. توالي الأمواج العاتية أجبر المهاجرين السريين على مطالبة «الرايس» المزعوم بالعودة إلى نقطة الانطلاق، بعد تزايد حدة الأمواج التي أغرقت القارب بمن فيه، لتنطلق بعدها جهود الـ56 مهاجرا سريا، محاولة الانعتاق من التيارات المائية القوية بالمنطقة. ويحكي الناجي من الفاجعة، بحزن شديد، تفاصيل غرق أصدقائه الذين كانوا على متن «الفونطوم» بسبب الأمواج العاتية بشاطئ زناتة، ولم يستطع مغالبة دموعه حينما كشف عن غرق زملائه أمام عينيه بسبب عدم إتقانهم للسباحة، بعد انقلاب القارب المطاطي، معتبرا أن حظ نجاته من حادث الموت المحقق لم يحالف باقي أصدقائه الذين استسلموا بعد مجهودات بذلوها من أجل النجاة. وذكر ابراهيم لحلو في حديثه أن كافة أصدقائه من المرشحين للهجرة السرية انطلاقا من شاطئ عين حرودة، واجهوا عسرا وصعوبات مالية قبل توفير المبلغ المالي المحدد في 25 ألف درهم، والتفكير في الهجرة صوب الضفة الأخرى.
وبعد نجاة الأخير من الموت المحقق، اكتشف عند وصوله إلى رمال الشاطئ، إصابته بكدمات خطيرة على مستوى القدم، فضلا عن أزمة نفسية حادة أجبرته على متابعة حصص منتظمة من أجل التخفيف من تبعات الحادث.
القتل والاتجار في البشر
أكدت مصادر مطلعة تقديم المتهمين الثمانية في فاجعة زناتة، أمام الوكيل العام للملك باستئنافية الدار البيضاء، بتهم جنائية ثقيلة، من بينها القتل والاتجار في البشر، بحيث أمر الوكيل العام للملك بإيداعهم سجن عكاشة، إلى غاية تعميق البحث معهم من طرف قاضي التحقيق.
وحسب السلطات المحلية بعين المكان، فإن عناصر الدرك الملكي، بتعاون مع الفرقة الوطنية للأبحاث القضائية ومديرية حماية التراب الوطني، نجحت في الإيقاع بأفراد العصابة الإجرامية التي نظمت رحلة الهجرة السرية من شاطئ زناتة صوب الضفة الأخرى.
ويتزعم العصابة شخص يتحدر من منطقة عين حرودة يدعى «الرايس»، وهو المسؤول الأول عن الرحلة، بحيث استعان بخدمات وسطاء من قلعة سراغنة ونشطاء في النقل السري، أمنوا التنقل للمرشحين للهجرة السرية بين مدينتهم الأصل ومنطقة مديونة وبعدها صوب شاطئ زناتة الذي انطلقت منه الرحلة.
ونجحت العناصر الأمنية في الإيقاع بأفراد العصابة، بعد خطة منسقة بين عناصر الدرك الملكي ومديرية حماية التراب الوطني، في انتظار القبض على عنصرين تم تحديد هويتهما ومازالا في حالة فرار. وأفادت مصادر «الأخبار» بوجود تنسيق بين مختلف الوحدات الأمنية، من أجل القبض على بقية أفراد العصابة بعد فك خيوط الفاجعة، في حين تحرص السلطات المحلية، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، على استخراج باقي الجثث العالقة بين الصخور بشاطئ النحلة. وحصل «الرايس»، الذي تزعم الشبكة الإجرامية، على مبلغ إجمالي يتجاوز مليونا و300 ألف درهم، لقاء تنظيم رحلة العبور صوب أوروبا لفائدة العشرات من شباب مدينة قلعة السراغنة، مستعينا بخدمات وسطاء من المدينة.
وتم العثور، نهاية الأسبوع الماضي، على جثث سبعة مواطنين مغاربة، من بينهم امرأة، لفظها البحر بشاطئ عين حرودة بعد جنوح الزورق الذي كانوا يستقلونه، لتباشر فور ذلك فرق الوقاية المدنية عمليات تمشيط بحثا عن جثث ضحايا آخرين.
وظهرت، صباح الاثنين، جثث خمسة أشخاص بشاطئ «النحلة»، جرى التعرف عليها، جثثهم، فيما تم إخراج أربع جثث بحر الأسبوع الجاري، لترتفع حصيلة القتلى إلى 16 قتيلا، فيما تجهل، إلى حدود الآن، هويات ومآل أزيد من 20 شخصا في انتظار أن تلفظهم مياه الشواطئ على مستوى الشريط الساحلي بين البيضاء والمحمدية.