غنية دجبار
حكايات العائدين من الموت، الذين نجوا بأعجوبة بعدما ظنوا أن أجلهم قد حان، تشد أنفاس سامعيها. لكن حقيقة الشعور في تلك اللحظة لا يدرك كنهها إلا من مر من حادث مفاجئ كاد يودي بحياته. النجاة من الموت المحقق في اللحظات الأخيرة بعد انقطاع حبل الأمل أشبه بفرصة جديدة لاستكمال الحياة، لذلك لا زال يتذكرها بكل تفاصيلها بعض المحظوظين وهم يسترجعون ذلك الإحساس الرهيب الذي انتابهم وهم يلقون نظرة الوداع الأخيرة على من حولهم..
سواد تام ثم ضوء ينبعث من بعيد، هكذا يصف الناجون من الموت حالتهم وهم يعودون إلى الحياة من جديد، وكيف فازوا في تلك المواجهة المصيرية مع الموت.
أشخاص تعرضوا لحوادث خطيرة ومؤلمة يسردون لـ «الأخبار» تفاصيل قصصهم وكيف نجوا من الموت بأعجوبة.
يوسف: «مات أخي لأنجو أنا»
يوسف، شاب في الرابعة والثلاثين من عمره يقول في حديث لـ «الأخبار» عن قصة نجاته من الموت: «أنا فعلا ممن تنطبق عليهم عبارة «الناجون من الموت» فقبل 30 سنة تعرضت لحادثة نجوت منها بأعجوبة. يتوقف لبرهة عن الكلام، ثم ينطلق بسرد الأحداث قائلا: « رغم صغر سني وقتها، إلا أنني لازلت أتذكر تفاصيل ما حصل في ذلك اليوم.
كان أبي في عمله، وأمي اضطرت لإيصال الخادمة إلى بيتها، فتركتنا أنا وأخي في البيت. كان عمري حينها أربع سنوات وأخي خمس سنوات. وبما أن والدتي كانت دائما تمنعنا من الخروج واللهو أمام الشرفة، اقتنصنا فرصة غيابها لنخرج إليها.
وعندما كنا نلعب فجأة بدأ أخي بالصراخ، فالتفت فإذا بي أرى نصف جسده خارج الشرفة، ركدت للإمساك به إلا أنني لم أستطع إنقاذه فجدبني معه إلى الأسفل».
يتدخل والد يوسف ليكمل الكلام قائلا: «سقط علي ويوسف تباعا من علو أربعة طوابق، لسوء حظ علي سقط أولا وسقط يوسف فوقه، فمات على الفور أما يوسف فدخل في غيبوبة عميقة.
لما عادت زوجتي إلى البيت وجدت سيارة إسعاف تقف أمام باب العمارة وسيارة للدرك والشرطة، لم تتخيل حينها أن يكون أولادها هم الضحايا.
بعد معرفتها بالفاجعة أصيبت بنوبة صراخ هيستيرية لتفقد بعدها الوعي، أما أنا فقد تلقيت الخبر كالصاعقة لدرجة أنني لم أستطع قيادة سيارتي لأذهب إلى البيت».
ويضيف: «ظل يوسف في الغيبوبة لمدة شهرين، كنا مع بداية كل يوم جديد نحضر أنفسنا لتلقي خبر وفاته، فقد كانت حالته جد حرجة.
ولكن ولله الحمد انتهى ذلك الكابوس بعد استعادته لوعيه بعد شهرين من المعاناة النفسية، فمن جهة كانت وفاة علي جد مؤلمة ومن جهة أخرى كنا خائفين من فقدان أخيه لأننا لن نتحمل فاجعتين متتاليتين».
كابوس تحول إلى حقيقة
عبد الله رجل خمسيني متزوج وأب لأربعة أطفال، يقول لـ «الأخبار»: «لولا لطف الله لتيتم أطفالي وترملت زوجتي، فقبل أربع سنوات توفي فرد من العائلة بمدينة فاس، فاضطررت للسفر أنا وأخي وزوجته لنقوم بواجب العزاء، وفي طريق الرجوع ونحن على الطريق السيار كانت تمشي خلفنا شاحنة لنقل السلع، وفي لحظة كان يتحدث فيها أخي الذي كان يسوق السيارة مع زوجته الجالسة خلفه، لم ينتبه إلى محاولة تلك الشاحنة تجاوزه، لامست شاحنته سيارتنا الصغيرة فلفت بشكل كبير لتبدأ بالدوران في الهواء»، وأضاف: «في تلك اللحظات بدأت أنطق الشهادتين وشريط حياتي كله مر أمام عيني، كنت أشعر أنني لن أرى أطفالي مجددا، لأنني لم أكن أرى سوى الموت يناديني.
في كل لفة كانت تلفها السيارة في الهواء كان قلبي يلف معها، حتى صراخ زوجة أخي العالي لم أكن أسمعه، فقد كنت أشعر وكأن السيارة تدور بالعرض البطيء تماما كما في الأفلام، كانت تلك أطول وأصعب لحظات في حياتي. وبعد توقف السيارة عن الدوران لم أصدق حينها أنني لازلت على قيد الحياة. سارعت بالخروج من السيارة، وسرعان أيضا ما خرج أخي وزوجته منها. هذه الأخيرة أغمي عليها فور خروجها من السيارة. التأم الناس حولنا غير مصدقين أننا لم نصب بأي ردود أو كسور، فالكل كان يعتقد أننا متنا داخل السيارة».
ويسترسل عبد الله قائلا: «بعد استجماعنا لأنفاسنا وقوانا، وبعد أن استفاقت زوجة أخي من إغمائها، ركبنا مجددا السيارة، التي لم تصب هي الأخرى بأضرار كبيرة، لنعد أدراجنا إلى مدينة الدار البيضاء.
الصدمة جعلتنا لا نتفوه بكلمة طوال الطريق، وبعد وصولنا بخير وسلام، تفاجأ كل من في البيت بحالتنا، فقد كانت آثار الدهشة واضحة على وجوهنا الشاحبة وكأننا صادفنا شبحا للتو. بعد أن روينا عليهم قصتنا مع الموت، الكل تفاجأ وقال ننا ولدنا من جديد.
وفي اليوم التالي تذكر عبد الله، وفق ما يحكيه للجريدة، أمر حلم رآه في الليلة التي كان سيسافر فيها إلى فاس. فقد رأى في منامه أنه يسوق شاحنة كبيرة وفجأة يقوم بدهس شابين ليتهيأ له أنهما توفيا، ولكن سرعان ما يقومان من تحت عجلات الشاحنة وكأنهما لم يتعرضا لأي حادث.
رضا: «أنا لي درتها لراسي»
«أنا لي درتها لراسي»، هكذا بدأ رضا (19 سنة) كلامه ليقول: «كنت قبل ثلاث سنوات مهووسا بالدراجات النارية، وكنت دائما أطلب من والدي أن يشتري لي واحدة.
ورغم رفضه المستمر إلا أنني كنت أصر عليه، فقد كان امتلاك دراجة نارية الحلم الوحيد الذي كنت أود تحقيقه وقتها، لدرجة أنني كنت أهدد بترك المدرسة إن لم يشتر لي والدي الدراجة التي أريدها.
بعد فشل كل محاولاتي، قمت في أحد الأيام بسرقة دراجة صديق لي، واندفاعي حينها جعلني أسوق في طريق مزدحمة وعكس السير، فقد كنت أشعر وقتها وكأنني طائر، لم أكن أدرك ما يحصل حولي، فالنشوة التي كنت أشعر بها جعلتني أفقد تركيزي وبصيرتي. كنت أسوق الدراجة بسرعة هستيرية، الشيء الذي جعل حلمي ينتهي بمأساة. ارتطمت بسيارة كانت قادمة عكس اتجاهي، مع العلم أنني أنا من كان يسوق عكس السير.
الشيء الوحيد الذي أتذكره من هذه الحادثة هو لحظة ارتطامي بتلك السيارة رباعية الدفع، لأنني بعدها فقدت الوعي تماما».
ويضيف: «حسب رواية شهود عيان، فقد تسبب ارتطامي بالسيارة بكسر زجاجها الأمامي، لأسقط خلف السيارة، وصلت بعدها سيارة الاسعاف لتحملني إلى المستشفى وأنا فاقد للوعي والدماء تغمر جسدي».
اكتشف الأطباء بعد وصول رضا إلى المستشفى أنه في غيبوبة، ودام على هذه الحال ثلاثة أسابيع متواصلة، الكل كان يظن أنه لن يستفيق أبدا ، فحتى أمل الأطباء بنجاته كان ضعيفا جدا.
يقول رضا: «انهيار صديقة لي بعد معرفتها بالخبر ومعرفتها بأنني في غيبوبة طويلة جعلها تشتري لي الكفن لأنها لم تكن تستحمل سباتي الطويل أو اللحظة التي سيخبرها فيها الأطباء بأنني فارقت الحياة ففضلت أن ترضخ للأمر الواقع.
ولكن الحمد لله استطعت بعد مرور ثلاث أسابيع أن أستفيق من الغيبوبة، كنت قد فقدت الكثير من الوزن بالإضافة إلى معاناتي من ردود كثيرة في جسدي منعتني من العودة إلى حياتي الطبيعية إلا بعد مرور ستة أشهر.
الحمد لله أنا الآن سليم معافى، الأثر الوحيد الذي تركته الحادثة في جسدي هو فقداني لحاسة السمع من أذني اليسرى.
وربما ما سأقوله الآن سيبدو غريبا ولكنني لازلت مهووسا بالدراجات النارية، ولكنني لم أعد متهورا كما كنت في السابق، فلن أسوق بسرعة وعكس السير وطبعا لن أتخلى عن الخوذة الواقية للرأس».
حينما تصبح النجاة من الموت أشبه بالمعجزة
بالرغم من خطورة الحوادث التي سرد علينا أصحابها تفاصيلها، فهناك حوادث أخطر يصعب تخيل نجاة أصحابها من الموت.
فهل يمكن لشخص أن يعيش بنصف جمجمة؟ الجواب، نعم. «كارلوس رودريغيس» تعرض لحادثة سير خطيرة فقد على إثرها نصف جمجمته ودماغه، ولكنه نجا من الموت بأعجوبة.
ولأنه الآن يعيش وجمجمته مقطوعة، فإن أصدقاءه لقبوه بـ «النص» أو»Halfy».
كارلوس يعيش بنصف جمجمة أما «ترومان دنكان» فيعيش بنصف جسمه، فقد تعرض هذا الأخير لحادثة قطار خطيرة. فبينما كان يعمل مشغلا للقطارات في السكك الحديدية، سقط على الأرض وجره القطار لمسافة اثنين وعشرين مترا إلى أن كاد ينقسم جسمه إلى نصفين.
أصيب ترومان بإصابات خطيرة جعلت الأطباء مضطرين لقطع ساقيه وحوضه واستئصال كليته في عملية دامت ثلاثة وعشرين ساعة استطاع بفضلها أن ينجو من الموت.
هذه المرة الحادثة كانت حادثة سيارة، فقد تعرضت «شانون مالوي» لحادثة جعلت رأسها ينفصل عن جسمها ليظل معلقا فقط من خلال الحبل الشوكي. ولكن استطاع الأطباء إنقاذها، إلا أنها أصبحت تعاني من مشاكل في النظر والكلام.
أما «فينيس غيج» فقد تهشمت جمجمته على إثر انفجار ديناميت عام 1940 مما أدى إلى دخول قضيب لرأسه، ولكنه تمكن من النجاة. بعد القضيب كان مسدس مسامير السبب في دخول اثني عشر مسمارا لرأس رجل من أوريغون، وبالرغم من عدم تمكن الأطباء من إيجاد المسامير، إلا أنه تلقى العلاج بعد ذلك ثم اضطر لدخول مصحة نفسية.
النجاة من الموت والدخول في اضطرابات نفسية
بالرغم من النجاة من الموت بعد حادث مؤلم أو خطير، إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان لا يكون معرضا لأضرار نفسية قد تلاحقه وتجعله يعاني من بعض الاضطرابات النفسية تسمى باضطرابات ما بعد الصدمة.
ويعرف الطب النفسي الصدمة النفسية بالحدث الفجائي الغير متوقع الذي يتسم بالحدة لدرجة تهدد حياة الإنسان، فيجد الشخص نفسه غير قادر على التصدي إليه أو مواجهته.
وعندما يتعرض الإنسان لحدث صادم، ككارثة طبيعية مثل الزلازل والبراكين…أو حادث من صنع البشر كحادث مروري، سقوط مبنى، حادث قطار، انفجار…. فإنه يعاني بعده من اضطراب ما بعد الصدمة فيشعر بالخوف على حياته، فيرى أشياء مخيفة ويشعر بالعجز والاضطراب العاطفي.
ولكن هذا لا يعني أن الكل معرض لاضطراب ما بعد الصدمة، وذلك راجع لعدة أسباب أهمها: شدة ومدة الحدث الصادم، التقييم المعرفي للحدث وأهميته للفرد، مدى القرب من الحدث، رد فعل الشخص، نوعية وكمية الدعم الذي تلقاه الشخص بعد الحدث، بعض العوامل المتعلقة بالشخص الذي تعرض للحادث، كجنسه، وضعيته الاجتماعية والاقتصادية والدينية، عمره ونسبة ذكائه، وأخيرا هل سبق له وأن تعرض لأمراض أو أحداث صادمة.
هذا بالإضافة إلى اختلاف استجابة كل شخص لاضطراب ما بعد الصدمة، فهناك من تظهر عليه الأعراض بعد عدة أيام أو أسابيع أو حتى شهور، وهناك من تظهر عليه الأعراض بعد سنوات، ويمكن أن لا تظهر أي أعراض.
ووتيرة ظهور الأعراض تختلف من شخص لآخر، فقد تظهر الأعراض بطريقة فجائية أو تدريجية ويمكن أيضا أن تظهر تلك الأعراض وتختفي مع مرور الوقت.
فإذا تجاوزت مدة أعراض ما بعد الصدمة الأربعة أسابيع مسببة للشخص القلق والتوتر، ففي هذه الحالة عليه أن يتلقى العلاج اللازم.
تتمثل تلك الأعراض في الاستعادة المتكررة والمؤلمة لذلك الحدث، الكوابيس المرتبطة بذلك الحدث، flash back أو شعور بأن ذلك الحدث سيتكرر مرة ثانية، الشعور بالضيق والألم عند تذكر الحدث، كتسارع دقات القلب، صعوبة في التنفس، تصلب العضلات، الدوخة، الغثيان وأخيرا تصبب العرق.