مْحلة المخزن قتلت رجال «الأنجرة» ودفنت بعضهم أحياء
يونس جنوحي
ذات يوم سألني الريسوني عندما كنت أشرب معه الشاي:
«هل تعرفين السيد هاريس؟».
وكان الخدم يرشون حولنا كميات كبيرة من ماء الزهر، وكان الشريف يفتح ملابسه لكي يتساقط ماء الزهر فوق صدره وظهره».
كان هناك نقاش حول ما إن كان النعناع المستعمل في الشاي الذي أمامنا طريا، وهو ما أنهاه الشريف بالزمجرة غاضبا في وجه الخادم:
–«حسنا، هل يوجد نعناع أم لا؟ وإذا كان النعناع موجودا، لماذا أحضرت لي هذا الروث؟».
أملا مني في تجنب واحدة من لحظات الصمت الكئيبة والمملة التي تعيق تقدم تسجيل هذه المذكرات، تدخلتُ وأشرتُ إلى أنه من المؤسف ألا يتمكن الأوربيون من إعداد شاي بهذه الروعة مثل المغاربة.
قال لي الشريف:
«لستِ صبورة. تريدين القيام بكل شيء بسرعة ودفعة واحدة. إن إعداد الشاي يشبه محاولة التعرف على رجل ما. كلا العمليتين يجب أن تتما ببطء وتروّ.
الآن، سأخبرك عن «هاريس». كان يعرف طُرق العرب وطباعهم، وحديثه كان ممتعا. كانت لديه موهبة الكلام والحكي، مما جعله محبوبا».
من الغريب فعلا أن العرب لا يقولون عن بعضهم إنهم شجعان أو فرسان ماهرون، لأن مثل هذه الصفات تعتبر بديهية ومفروغا منها، لكن، بالمقابل، العرب يمدحون بلاغة بعضهم البعض بحماس.
واصل الريسوني حديثه:
«عرفتُ هاريس لفترة قبل أن يكون سجينا، لأنه كان يذهب إلى الجبال لممارسة القنص. وكان أحيانا يرتدي اللباس المحلي لأهل الجبال ويتكلم لغتنا أيضا فضلا عن لغته الأم.
زُرت مخيمه ذات يوم وتحدثنا معا عن أمور كثيرة، لأنه كان تحت حمايتي عندما توغل في الجبال بحثا عن أخبار لجريدته».
وصف السيد هاريس الريسوني في تلك الأيام بأنه كان شخصا رائعا، طويل القامة وعلى قدر كبير من الوسامة. بشرته ناصعة البياض مع لحية داكنة وقصيرة وشارب، وعينان سوداوان. كانت ملامحه يونانية أكثر من «سامية»، وحاجباه يشكلان معا خطا مستقيما يعبر جبهته. كان يبتسم أحيانا، في مناسبات نادرة، ولم أسمعه يضحك أبدا. كان باردا جدا، ومتكبرا في تعامله مع أتباعه. وكانوا يعاملونه بالاحترام والتوقير الواجب منذ ولادته.
اقترب أحد العبيد من الريسوني مُظهرا التذلل وكان يحمل بين يديه أدوات إعداد الشاي. أشاح له الشريف بيديه بدون صبر:
«لا.. لا. انتهى الأمر، أنا مشغول الآن».
وواصل متابعة قصته:
«أخبرتك كيف أن جل القبائل التي يرتدي رجالها الجلابيب كانوا في صفي، وكيف أنني كنت أحكم مثل سلطان في الجبال.
كان كل رجل لديه شكوى أو تظلم يأتي إليّ ليطلب العدالة، سواء كانت قضيته ضد السلطان أو ضد الأوربيين.
حدث ذات يوم أن راج كلام عن بناء محطة كابلات لإنشاء خط بين جبل طارق وطنجة، وقيل إن الإنجليز يرغبون في تمرير الخط من أراضي قبيلة الأنجرة خارج المدينة.
أرسل إليّ الشيخ عبد الحنان، وهو أكبر رجال الأنجرة، يقول: «سوف أقاتل هذا الشيء الجديد الذي يريد النصارى إلحاقه بنا بكل قوتي. تعال عندي لمساعدتي ودعمي مع قبائل الفحص!».
كان الأمر بالنسبة لي فرصة للتمرد ضد المخزن، الذي كانت قواته ضعيفة ويخترقها الخونة. لم يستطع الإنجليز القيام بأي شيء، لذلك استنجدوا بالمولى عبد العزيز الذي أرسل «مْحلة» قوية لمواجهتنا.
أقامت «المْحلة» مخيما قرب طنجة على ضفاف الوادي. لكن، في ذلك الوقت، كنا معتادين على قتال قوات المخزن.
كنا نعلم جيدا أنهم سوف يأكلون أولا ثم ينامون. ولن يشكلوا ضدنا أي خطر إلا بعد أن يشبعوا بطونهم.
لذلك هاجمناهم في الصباح حيث كانوا غير جاهزين. وقتلنا الكثيرين منهم، لكننا تركنا فريقا دون أن نلحق به أي ضرر. فقاموا بإحراق منطقة من قريتي في «زينات» وهربوا في اتجاه أرض «الأنجرة»، حيث كانوا يخربون ويقتلون الناس في طريقهم حيثما ذهبوا.
اعتقل رجالي عددا من الأسرى، وبسبب ما قام به رجال المخزن ضد القبائل، من دفن للناس أحياء وقطع لأطرافهم، قتلنا كل الأسرى لدينا».