لا يوجد شعور يضاهي نشوة الكاتب بتوقيع نُسخ أعماله أمام القراء.
وهذا الإحساس تعيشه هذه الأيام الكاتبة الفرنسية، التي وُلدت في الدار البيضاء، «ميلفينا ميستر»، حيث وقعت في باريس، هذه الأيام، أولى نسخ روايتها الجديد: Crépuscule à Casablanca.
وهذا العنوان، يحتمل أوجه عديدة للترجمة. ويحيل على ما يقع في الدار البيضاء وقت الغروب، أو ساعة «الغسق»، وانقضاء يوم حافل من أيام المدينة «الغول»، والاستعداد لاستقبال ليلها، وما أدراك ما ليلها.
هذه الكاتبة الفرنسية كانت وراء اختراع شخصية «گابرييل ماكلان»، بطلة الرواية. وقد وقع الكثيرون في الخلط بين اسم الكاتبة وبطلة روايتها التي توظفها في كتاباتها وقدّمتها للقراء على أنها محققة خاصة عاشت في مدينة الدار البيضاء، خلال خمسينيات القرن الماضي.
والحقيقة أن الكاتبة نفسها، السيدة «ميلفينا»، عاشت طفولتها في الدار البيضاء منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولديها ذكريات حميمية جدا مع المدينة أيام كان يسكنها المعمرون الفرنسيون، وتعتبر نفسها مدينة للدار البيضاء بحسها الأدبي الذي يعرفها به الفرنسيون، وقراؤها باللغة الفرنسية اليوم.
شخصية الرواية، المحققة «گابرييل»، كانت تكتري محلا في ممر «سوميكا» الشهير، قرب ما كان يسميه الفرنسيون «شارع المحطة»، والذي حمل اسم الملك الراحل محمد الخامس بعد الاستقلال. وتستقبل في مكتبها «زبناء غير عاديين»، هم أبطال السلسلة الروائية.
هذه المرة، اختارت «ميلفينا» أن تُرسل شخصيتها، المحققة «گابرييل» إلى عمارة الحرية الشهيرة في الدار البيضاء.
في هذه العمارة، التي ما زالت شامخة إلى اليوم وتمثل متانة البناء الفرنسي، الاستعماري للأسف، كان يعيش ثري فرنسي من مُلاك المصانع، لكنه سوف يعيش مشاكل كبيرة مع زوجته، ليبدآ إجراءات الطلاق.
وهنا سوف يأتي دور المحققة، عندما يتم تكليفها بمهمة استعادة وثائق مهمة جدا من الشقة التي غادرها الزوج. وتبدأ مغامرة في عوالم الدار البيضاء، حيث عاش الفرنسيون إلى جانب البسطاء المغاربة والموظفين والأثرياء الجدد، الذين تعرفوا على الحياة العصرية مع الفرنسيين.
عالم رجال الأعمال الفرنسيين في المغرب خلال فترة الحماية يستحق فعلا أن يُسلط عليه الضوء، لأنهم ببساطة لم يكونوا جميعا ملائكة ولا مستثمرين، وبعضهم تورطوا فعلا في قضايا تجريد عائلات مغربية من ممتلكاتها. وفي المقابل هناك رجال أعمال فرنسيون تبرعوا بكل ممتلكاتهم لأعوانهم المغاربة، عندما قرروا العودة نهائيا إلى فرنسا. وإلى اليوم ما زالت هناك عقارات عالقة في مدينة الدار البيضاء لم يظهر أثر لأصحابها ولا لورثتهم، منذ أن غادروها مع فجر الاستقلال.
بمجرد أن وضعت المحققة يدها على الوثائق المطلوبة من داخل الشقة الواقعة في عمارة «الحرية»، والتي نعرفها نحن مغاربة اليوم بـ«الديساتيام إيطاج»، نسبة إلى عدد طوابقها، حتى بدأ العملاء السريون للمخابرات الأمريكية وعصابات أخرى تلاحقها جميعا للوصول إلى تلك الوثائق. وتتناسل جرائم القتل في صفوف من لهم علاقة برجل الأعمال وزوجته، لتجد المحققة نفسها في قلب دوامة، ما هي في الحقيقة إلا بعض من التوثيق التاريخي الذي قدمته لنا الكاتبة في قالب روائي.
إذ إن ماضي الدار البيضاء كان حافلا بهذا النوع من الأحداث، خصوصا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تحولت فيها المدينة إلى وجهة للهاربين بالوثائق الرسمية وخزانات الأموال، لاستثمارها في القطب الاقتصادي الأكبر في القارة الإفريقية وقتها.
وهذا بالضبط ما أغرى منتجي الفن السابع بإخراج أفلام كثيرة في الدار البيضاء، خلال تلك الفترة، حتى أن بعض الأمريكيين كانوا يعتقدون وقتها أن «كازابلانكا» ليست إلا اسما فنيا اختاره صناع الأفلام، لإضفاء لمسة من الإثارة والتشويق على أفلامهم البوليسية.
الغروب، أو «الغسق» في «كازابلانكا» لم يعد يحيل على ما عاشته كاتبة الرواية، أثناء طفولتها البعيدة في الدار البيضاء. الغروب الآن يُحيل على الصف الطويل من المنخرطين، رغما عنهم، في الطابور الطويل أمام سيارات الأجرة البيضاء، وجحافل العائدين المنهكين من مقرات عملهم، وهم يتجهون إلى أطراف المدينة المترامية فوق الخريطة، وهم يسابقون الوقت للوصول إلى منازلهم التي يكلفهم كراؤها أزيد من نصف أجرتهم، ويحمدون الله ألف مرة أنهم نجوا من ممارسي رياضة نشل الهواتف في الشوارع.
هؤلاء عندما يمرون الآن أسفل عمارة «الحرية» لا يرفعون رؤوسهم في العادة لإحصاء طوابقها الشاهقة، لأنهم يحملون بين أكتافهم همّا أثقل من شقق العمارة، وتاريخها أيضا.
يونس جنوحي