مَدرسة عن بُعد وأُسرة عن قُرب
المصطفى مورادي
مثلما لا تمكن العودة القهقرى بخصوص التعليم الرقمي أو ما يعرف أيضا بالتعليم عن بعد، لكون الطلبة والتلاميذ سيصبحون أكثر طلبا لهذه الخدمة، فإن انخراط الأسر أضحى أحد مكاسب هذه المرحلة التي يعم فيها الحجر الصحي. فإذا كنا نتحدث عن إجبارية التعليم عن بعد، فإن هذه المرحلة تفرض الحديث عن إجبارية التربية الأسرية عن قرب. ومثلما أن التعليم عن بعد هو أمر جديد عندنا، فإن العديد من الأسر ستجد نفسها مجبرة على أن تقوم بأدوارها التي تخلت عنها جزئيا أو كليا. وإلا ما هي وضعية طفل سيتوقف عن التعلم لمدة شهرين إذا لم تقم الأسر بدورها، المتمثل في دفع أطفالها إلى استئناف تعليمهم، ولو في الحدود الدنيا؟
إن الحقيقة البديهية التي ترسخها المدرسة العمومية، هي أن التربية بخلاف التعليم لا يمكن أن تنجح عن بعد. والدروس الرقمية تكرس هذه الحقيقة بقوة. فإذا كانت الفوارق بين التعليمين الخصوصي والعمومي تخلق هوة في تكافؤ الفرص، فإن للأسر الآن إمكانية لردم هذه الهوة، ولا مجال هنا لاجترار الاتهامات التقليدية للأساتذة والإداريين وتحميلهم مسؤوليات تدني مستوى الأطفال. ومثلما أن التعليم الحضوري إلزامي فإن التربية الأسرية أضحت أيضا إلزامية، والحديث عن «المربي من عند ربي»، التي يبرر بها بعض الآباء تخليهم عن أدوارهم، أضحى حديثا أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى الحقيقة والواقع. لأن الحقيقي والواقعي فعليا هو أن التربية بما هي كذلك لا تخلو من إجبار وإلزام وتوجيه، أي من سلطة أبوية مشروعة. غير أن الطريقة التي تناول بها بعض الآباء مسألة دفع مصاريف الدراسة في ظل الحجر الصحي في القطاع الخاص يدل بوضوح على أن أغلب هؤلاء الآباء لم يفهموا أن دورهم لا يتوقف فقط على توفير أموال الدراسة. وكأن لسان حالهم يقول لأرباب المدارس: «هذا عملكم أنتم لا نحن»، والواقع أنه لا تعليم مؤسساتي بدون تربية أسرية. ومهما كانت جودة الخدمات التي تقدمها مؤسسات التعليم فإنها لن تعوض أدوار الآباء.
إن الحديث عن أدوار الأسر أضحى أمرا ملحا. ولنتصور الانتظارية التي تحكم آلاف الأسر وهم يرون أطفالهم منشغلين بتوافه الأمور، من قبيل المكوث لساعات في مجموعات الدردشة، وأحيانا إلى الساعات الأولى من الصباح، دون أن يحركوا ساكنا، معتبرين أن أطفالهم ضحايا. لذلك يرتقب أن تظهر احتجاجات أبوية كثيرة، تفوق تلك التي تسجل سنويا عقب ظهور نتائج الامتحانات الموحدة، لأن هذه الانتظارية يتم تبريرها، كما قلنا، بمبررات أن التعليم والتربية شأن يهم الآخرين الذين يتلقون رواتبهم عن ذلك. وعندما نرى نسبة الآباء الذين يواكبون أطفالهم في المؤسسات التعليمية أو عبر مختلف التطبيقات الرقمية، سنعرف أن الأسر هي سبب من الأسباب الرئيسية لتدني مستويات الأطفال.
فعندما نجد أسرا تبرر عدم تدخلها في إجبار أطفالها على استكمال تعليمهم في المنزل بانعدام الإمكانات المادية، بينما أطفالها، في التعليم الابتدائي مثلا، لا يكادون يكتبون جملة واحدة دون الخروج عن السطر أو دون أخطاء في رسم الحروف، ولا يجبرونهم على كتابة صفحة يومية انطلاقا من الكتاب المدرسي الممنوح لهم مجانا في إطار برنامج «مليون محفظة».. عندما نجد مثل هذا وأكثر، سنستنتج، دون مبالغة أو محاباة، أن الدولة قد تكون أكثر التزاما واهتماما بمستقبل الأطفال من أسرهم. فكما يحلو لنا، بمناسبة وبدونها، أن نطالب الدولة بالقيام بواجب تعميم وتجويد التعليم الإلزامي، فهل سنمتلك الشجاعة لنطالب الأسر بواجب تربية ومواكبة تعليم أبنائها؟