شوف تشوف

الرأي

موعد الفحص

جهاد بريكي
أجلس فوق المكتب الحديدي الجديد، أستمتع بشكلي فوقه، طبيبة ومكتب يبعثان على الثقة، أحرص دائما على أن يكون هندامي لطيفا، وزرتي نظيفة، أشعر بأن الأمر يؤثر بالمرضى. يمنحهم مظهر الطبيب المرتب قليلا من الأمان. وأنتظر المرضى والمتعافين. سيسخر أحدهم قائلا كيف تنتظر طبيبة المرضى!؟ وسأعتبر سخريته حقا من حقوقه في التنفيس عن همومه ومعاناته. يتأخرون، ولكل منهم من الأعذار الآلاف المؤلفة. المواصلات، الطريق غير الآمنة، المطر، الشمس، مكتب الدخول، الازدحام، الخوف، الكسل. يتوافدون علي كل يحمل ورقة تشير إلى رقمه، تلتقي نظراتنا ونتبادل السلام. منهم من يراني ملاكا أرسلتُ لحل مشاكله وتلطيف آلامه، ومنهم من يراني شيطانا سيمتص دمه وماله ويتركه على لوائح الانتظار شهورا طويلة انتقاما منه ونزوة مرضية من طبيبة نرجسية.. والحقيقة أني لست سوى طبيبة مجهدة، تائهة في هذا العالم الغريب، والذي دخلته تقفيا لأثر حلم طفولي مفاجئ ومتعب. طبيبة أنهت حراستها هذا الصباح ولم تنم سوى ساعتين أو ثلاث، متقطعة، نوم هو أقرب لمطرقة تشق رأسها منه إلى راحة وهدوء. تريد أن تفحص المرضى وتنهي ساعاتها ثم تعود لبيتها، لا تفعل شيئا سوى مراقبة حيطانه والتمدد. هموم وقضايا تصاحب كل مريض، مشاكل عائلية أغلبها خيانة وخذلان، أبناء يتنكرون وأزواج يهربون، ونساء يحملن المرض والخيبة نحو مكتبي. من تشكي ومن تحكي ومن تسرد القصص ومن تلعن العالم والخليقة. رجال يتمددون أمامي كأطفال يراقبون حركتي وأنا أعالج جروحهم وأضغط للتخلص من القيح والدم. يرجونني أن أترفق بهم وأتلطف. وأعتذر، هناك أوجاع مؤقتة لا بد من تحملها لبلوغ حلم الشفاء، يستسلمون لكلامي وليدي. بعضهم يخفون تواريخهم الطبية والجراحية، خوفا من أن ترفض حالاتهم، أو تشكل عائقا أمام علاجهم، أسأل: هل تعاني من أي أمراض!؟ يجيب: لا. أسأل: هل تتناول دواء معينا!؟ يجيب: نعم. فيخرج كيسا بلاستيكيا يضم أدوية لأمراض شتى. أبتسم وأعيد السؤال من جديد: هل تعاني من أي أمراض معينة!؟
أفحص وأشرح وأصف أدوية وأطلب تحاليل وأصحح معلومات، يسألني المريض، زوجتي تمنع علي اللحم، هل فعلا اللحم مضر!؟ لقد سمِعت أحدهم يقول ذلك! أعتقده كان طبيبا بيطريا أو واعظا دينيا لا أدري!؟ أبتسم وأقدم له لائحة الأغذية التي يجب عليه تجنبها، أو استهلاكها بحرص. أشعر بابتسامة النصر تحت كمامته تلوح، بعدما علم أن باستطاعته أكل اللحم ولو مرة واحدة في ما تبقى في حياته. تسألني زوجته إن كنت أنا الدكتورة خولة. أجيب بلا. لكنها تصر. أؤكد بأني لست هي، ولا أعرفها. تستغرب كيف لا أكون الدكتورة خولة رغم أنها سبق وقابلتني وتعرفني جيدا. أكف عن جدالها فهي مقتنعة بأني خولة وربما أخفي هويتي لسبب معين. أخبرها بأن تحضر زوجها بعد شهر للمراقبة.
رجل غاضب يقتحم علي المكتب، أسأله أي اختصاص يبحث عنه، فيصرخ: أريد أن أشتكي، هناك مؤامرة تحاك ضد المواطن، إنهم يتحججون كل مرة بسبب معين حتى لا يعالجونني، فأخبره أني غير مسؤولة عن هذه الأمور ولا دخل لي ولا حل له عندي. تفاجئه نبرتي المنخفضة، المتعبة، فيغير ملامحه وصوته ويقدم لي ورقة لأقرأها، أشرح له ما كتب، وأن الأمر لا يتعلق بكونهم يرفضون علاجه وإنما حالته تتطلب المتابعة قبل أي قرار تدخل جراحي. يهدأ ويحاول تقديم أعذاره على سلوكه الهائج، أطلب منه الخروج لأنه يعطل الفحص.
أفحص النساء والرجال، الشيوخ والشباب، أحاول جاهدة أن أنقل شيئا من الفرح الذي بداخلي إليهم وأحيانا أتمنى أن لا أنقل الغضب الذي يتملكني إليهم. أشعر بأن بعضهم أكثر صحة مني رغم أن تحاليلهم تخبرني أن قلوبهم تئن من العلل.
أرى المرض أحيانا في ذويهم ومرافقيهم أكثر من الذي أراه في المرضى أنفسهم. أخاف الفقر حين يتحالف مع المرض، أخاف النظرة التي تعلو وجه كائن مريض وفقير ومرعوب. تقتلني الأسئلة، كيف ولم ولأي سبب!؟
أنسى الوجوه وأنسى المعاناة، وأنسى حتى نفسي، أنسى وأنسى.. لأن قدرتي على التحمل أقل من قدرة طفل على تقبل الهزيمة. أهرب، أنفصل عن وزرتي وأبني بيني وبينها أسوارا كبيرة، كي لا تغرقني في طوفان أسئلتها. أواسي عقلي بأن السعيد هو قليل السؤال الذي يرضيه أي جواب. وأنا أرغب بأن أكون سعيدة. تماما كالمريضة التي تنتظر موعد العملية، وتنام كملاك جميل في فراش وردي لطيف، وعلى طرف السرير يجلس رجل يحبها كثيرا، يتمنى لو كان مكانها، على استعداد أن يجلب لها القمر لو طلبناه علاجا لها. أراقبهما وأشعر بأن قلبي يتسع، ورئتي تمتلئان بنسيم بارد وعليل. كيف كان يمكن أن ترى هي تلك النظرة في عينيه لولا مرضها. وكيف يمكن أن يحب شخص شخصا فتتحول عيناه إلى بركتين نقيتين وسط أدغال لم تفسدها أقدام بشر، وعلى سطحها تطفو طيور بيضاء ورمادية ووردية. نظرة تجتمع فيها كل أساطير العشق والوفاء وتضم كل القصائد التي كتبت ولم تكتب. أبتسم لهما. تنادي علي وتحاول إهدائي قليلا من الشوكولاته التي يأتيها بها كل يوم. فأتحجج بأني لا أحبها. الحقيقة أني أجد من المجحف بعثرة هدايا المحبوب وحلوياته على الناس. هي ملك للحبيبة وحدها، وحدها التي يجدر بها التلذذ بكل قطعة منها، لتسترجع معها قليلا من تباريح الشوق وترانيم الهوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى