شوف تشوف

الرأي

موسى في مواجهة الحضارة

بتاريخ الاثنين 29 يونيو 2015 الموافق 12 رمضان 1436 هـ تم نسف سيارة النائب العام في مصر (هشام بركات) فلم يشفع له رمضان ولا شعبان، فانتهت حياته ببطن مفتوح نازف في قاعة العمليات ولم ينقذه راق.
ومن يرى وضع مصر الحالي ـ كما رأيتها لما زرتها مرتين ـ يدرك الفارق بين الأهرام التي بنيت وأين يعيش المصريون، كما أدركت عمق الصراع بين موسى وفرعون (المؤسسة العسكرية الاستبدادية الدموية القمعية).
هذا الجدل مازال يمشي في التاريخ ليس في مصر، بل في كل الثقافات على مدار التاريخ، بين الحرية والاستبداد. بين الأنبياء والطغاة، بين قوة الثقافة وثقافة القوة.
يظهر هذا واضحا في كلمات مكررة من فرعون؛ فهو تارة يقول أنا ربكم الأعلى. وهو في مكان ثان يقول: يا أيها الملأ ماعلمت لكم من إله غيري؛ فأوقد لي ياهامان على الطين؛ فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه من الكاذبين. وفي مكان ثالث يهدد موسى: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين. هو يأخذ دفعة واحدة موضع الله والرب والإله، ومنه نفهم كيف اختتم القرآن بسورة قصيرة بثلاث استعاذات: قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس.
أنا أصلي التراويح في رمضان 1436 هـ الموافق يونيو ـ يوليو 2015م، مع زوجتي المغربية؛ فأقرأ لها طرفا من قصص القرآن. هذه المرة بدأنا بسورة القصص، حيث عرفنا طرفا من ولادة موسى، وكيف تربى في حجر فرعون. ومنه فقد سألتني زوجتي عن السر خلف ذكر موسى المكرر في القرآن الكريم؟
لقد جاء ذكر موسى ربما أكثر من مائة مرة، وقصته منشورة على مساحة عشرات السور، لكن المتتبع للسرد يجب عليه أن يتعرف على ظروف ولادته ونشأته في مصر (سورة القصص بوجه خاص) ليس في بيت المستضعفين، بل في قصر فرعون، وهو أمر مهم سيكولوجيا، أن تترسخ فيه ثقة عالية بالنفس كي ينشأ قائدا، وليس مستضعفا من أخلاق العبيد، وهي المشكلة التي واجهت موسى حين عبر ببني إسرائيل البحر، حيث واجه شعبا مسلوخ الجلد هابط الهمة، لا يعرف اتخاذ القرارات المصيرية، في ظهره بقايا من سياط فرعون، ولا أمل في استصلاحهم. ظهر هذا واضحا حين الوصول إلى الهدف؛ الأرض المقدسة فتخلوا عنه وقالوا إذا كان الأمر يتطلب قتالا فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (سورة المائدة).
جيل لا ينفع فيه شيء إلا دفنهم في الصحراء، حتى يستنسخ منهم جيل صحراوي (مثل عرب الجزيرة العربية حين خرج بين أظهرهم محمد صلى الله عليه وسلم) لا يعرف إلا الشمس والحرية، وهي نهاية القصة، ويمكن مراجعة (مقدمة ابن خلدون) حين يحلل مغزى (التيه) أربعين سنة، أنه من أجل دفن جيل العبودية، وخروج جيل جديد للحرية من أصلابهم، وهذا يعني أن موسى نفسه لم يكن محيطا تماما بماذا ينتظره؟ كان واضحا أمامه أن عليه أن يخلص بني إسرائيل من العبودية (وصافي كما يقول المغاربة) لكنه لم يتصور قط المنظر الذي ينتظره في رحلة العودة، بعد الخروج من أسر العبودية، إلى فضاء الحرية.
حتى يمكن الإحاطة بقصة موسى كاملةَ فلا بد من خياطة عدة قطع من قماش القصة، لنصل إلى بانوراما، حتى يخرج المسلسل واضحا؛ من سورة القصص ينبت موسى في قصر فرعون، ثم خروجا إلى مدين (كما في سورة طه مختصرا)، القسم الثاني هو الوحي في طور سيناء، والعودة من جديد إلى مصر، من حيث خرج بهدف إخراج بني إسرائيل من عذاب فظيع وذل مقيم.
في سورة الشعراء نحضر النقاش الذي دار في صالون فرعون. تسع آيات بينات نراها في سورة الأعراف. المباراة مع السحرة واضحة في سورة طه ثم الأعراف والشعراء. الخروج وكيف يجتمع الفريقان مع مطلع الشمس يأتي في سورة الشعراء. الاستنفار للخروج يأتي في سورة الزخرف، وهو يسخر من موسى في سورة الشعراء أيضا يأتي التلويح بأن هؤلاء شرذمة قليلون ولا خوف منهم.
نحن نعرف أن من خرج كان بضع مئات من الآلاف (أرقام هائلة هي الآلة العضلية للحضارة الفرعونية ومنه رفض فرعون المطلق إطلاقهم) لأن بني إسرائيل تكاثروا (ما يشبه الطابور الخامس في زمن الهكسوس المحتلين من الشرق الأوسط لمصر في الألف الثانية قبل الميلاد ولمدة 150 عاما).
تكاثر المصريين تم بعد دخول إخوة يوسف واستقرارهم في مصر في ظل حكم يوفر لهم الحماية والمكانة. عندما تمكن الفراعنة من حزم أمرهم من جديد بعد أن أتقنوا صناعة العربة الحربية واستخدام الحصان (التي جاء بها الهكسوس حيث أن الفراعنة لم يكونوا يعرفون بعد تعدين الحديد وصناعة العربات الحربية واستخدام الدولاب واستئناس الحصان). في هذه الفترة من تقدم الفراعنة من جديد من جنوب مصر إلى الشمال، وهزيمة الهكسوس عاملوا بني إسرائيل بأن حولوهم إلى عبيد يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وكان يمكن أن يعتبروهم مواطنين ويستفيدوا من خبراتهم، لم يفعلوا هذا بل صبوا العذاب على بني إسرائيل، واعتبروهم متعاونين مع المحتل الخارجي، واستمر هذا ردحا طويلا من الزمن، إذا أخذنا بعين الاعتبار الامتداد الزمني للحضارة الفرعونية، التي حكمت فيها ثلاثون أسرة لمدة ثلاثة آلاف سنة، فهي أطول الحضارات عمرا، وهي تمتد على ثلاث فترات الأولى للعظام الذين بنوا الأهرامات في الأسرة الرابعة، حوالي 2400 قبل الميلاد، وقد كتبت في هذا أربع مقالات مطولات عن الحضارة الفرعونية، ومتى بنيت الأهرامات وهدف ذلك، ثم فترة الانقطاع مع دخول الهكسوس، وحكم مصر، وهي الفترة التي جاء فيها يوسف، ولعل من أسرار القرآن أنه يشير إلى الحاكم في ذلك الزمن بالملك وليس فرعون، ثم بعد هذا الانقطاع يتجدد حكم الفراعنة لأكثر من 1500 سنة وفي هذا الوقت واجه موسى فرعون.
(ربما كان رمسيس الثاني لا نعرف بالضبط) ولكن (موريس بوكاي) الفرنسي ينقل عنه أنه آمن بالقرآن حين اكتشف ملوحة البحر في بقايا معدة الجثة المحنطة لرمسيس الثاني، وهو أمر فيه أخذ ورد؟ ذلك أن القرآن يشير إلى غرق كامل الجيش ولم ينج إلا فرعون ببدنه؛ فهل هلك وقذف البحر الجثة؟
ثم كيف تم انشقاق البحر بما هو ضد قوانين الطبيعة؟ فيحاول الكثير من العلماء المؤرخين الذهاب إلى أن مكان عبور بني إسرائيل كان عند (البحيرات المرة) ولم يكن البحر الأحمر.
على كل حال كل هذه الأمور الأنثروبولوجية يمكن دراستها وتقصيها، ولكنني من هذا الشرح أريد الوصول إلى معنى مواجهة موسى لفرعون، وتخليد سورة كاملة (المؤمن أو غافر) باسم رجل مؤمن كان يكتم إيمانه؛ فقال ياقوم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.
أفضل من عبر كان المؤرخ البريطاني (توينبي) حين وصف الحضارة الفرعونية أنها كانت أمريكا العصر القديم، ويذكر أن الحضارة الفرعونية واجهت مستنقعات دلتا النيل (قبل 7000 سنة) فقامت بالاستجابة المناسبة، وأصلحت الأرض، التي يأكل منها المصريون حتى اليوم، ولكن في القسم الثاني من الحضارة وضع الموت يده الباردة عليها، حين تحول التحدي من الأرض إلى النفس، وبذلك دخلت الحضارة الفرعونية متحف التاريخ، بعد مرض عضال من (الفساد) و(الاستبداد) وهي اللعنة المزدوجة التي تصيب كل الأنظمة، كما هو الحال مع ديكتاتوريات العالم العربي والانفجارات المنذرة بتغير الأحوال؛ ونفهم لماذا يصر بشار البراميلي على حكم الأسد إلى الأبد أو حرق البلد؛ فهو نفس المنطق الفرعوني القديم، نقتل الأطفال ونستبيح النساء. والبراميلي هو شقيق عبد المجيد الكيماوي العراقي، وليسا سوى عينة من الضواري في سفاري العالم العربي.
فهذا هو المقصد الأعظم من قدوم موسى إلى مصر من جديد، مع كل المخاطر المحيقة به، فلما خرج ببني إسرائيل إلى الحرية، رجعت حليمة إلى عادتها القديمة؛ فإن مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وإن غاب عنهم للقاء ربه أسرع السامري يصنع لهم عجلا جسدا له خوار فيقول هذا إلهكم وإله موسى فنسي، وحين يأخذ مجموعة من سبعين رجلا للقاء رب العالمين تهتز بهم الأرض لفساد أخلاقهم (ونتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة خذوا ما آتيناكم بقوة)، وإن كان الطعام عسلا وطيورا (المن وسلوى) قالوا ليتنا نرجع إلى مصر فنأكل البصل والعدس والكراث؟ وأخيرا حين يصلون إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم قالوا لن ندخلها حتى يخرجوا منها.
تبقى قصة منفردة من قصص موسى (مع الرجل الصالح في ثلاث قصص عجيبة صعبة الفهم والتفسير) لا نعرف أين مكانها في التسلسل التاريخي. بالمناسبة قصة الوصول إلى الأرض المقدسة، أي ختام الرحلة جاءت في سورة المائدة وبعدها مباشرة قصة عجيبة عن عدم الدفاع عن النفس، وهي فلسفة انتبه لها جورباتشوف في كتابه المورتاريوم. وفي نهاية القصة حكم لبني إسرائيل عن معنى القتل كما رأينا في العمليات الإرهابية في الكويت وتونس وفرنسا ومصر في رمضان 1436 هـ بأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا.
باختصار إذن: قصة موسى المكررة في القرآن من أجل نسف الوثنية والديكتاتورية تم تكرارها، ولكن بكل أسف كأنها نزلت للأوربيين الذين استفادوا منها في إيجاد نظام نقل السلطة السلمي، والديموقراطية، والحداثة والتنوير والعقلانية، وحرية الصحافة، ونظام برلماني نقي وانتخابات شفافة، والحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان، والإحسان للضعيف، وبرنامج الضمانات للعاطلين والباطلين والمتقاعدين والمرضى واحترام الطفل والمساواة الكاملة للمرأة، وحاليا في إسرائيل تقوم ديموقراطية داخلية يحسدون عليها، في حين يقتتل العرب مثل أيام الجاهلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى