عرف المغرب في الفترة الأخيرة انتعاشا ملحوظا في قطاع السياحة وارتفاعا مهما في عدد الوافدين الأجانب على المملكة. وهو أمر أصبحنا نلمسه في المدن الكبرى على وجه التحديد، حيث تلاحقك الملامح الأوروبية والآسيوية أينما وليت وجهك. تمتلئ الأسواق التقليدية بالمتسوقين الأجانب الذين أصبحوا يحترفون فن «الشطارة» تفاديا للوقوع ضحية للنصب السياحي، وتكتظ المطاعم الشعبية الرخيصة بمن شدوا الرحال إلى المغرب رغبة في تذوق ثالث أشهر مطبخ عالمي، بينما تزدهر تجارة الحانات الفخمة والمطاعم المصنفة والشواطئ الخاصة بنوع آخر من الزائرين الأجانب.
امال الزيتوني:
ولعل الانتصار الذي حققه المنتخب المغربي في مونديال قطر، وما صاحبه من شهرة مغربية طافت أرجاء العالم، كان أحد الأسباب التي ساهمت في تهافت السياح على زيارة هذا البلد الجذاب الذي سحر قلوب الملايين بتقاليده واحتفالاته وأجوائه المميزة في 2022.
مع حلول فصل الصيف واقتراب موسم الاصطياف، يبدأ العد العكسي لموسم السياحة الداخلية التي تتركز في مناطق ومدن محدودة أغلبها في شمال المملكة، حيث تعرف جهة طنجة تطوان ونواحيهما اكتظاظا هائلا من حيث عدد المواطنين الراغبين في الهروب من روتين الرباط أو جنون كازا أو لهيب مراكش أو رتابة المدن الصغيرة. وبهذا يصبح شمال البلاد مزارا سياحيا سنويا تفيض جنباته بالسياح الداخليين الذين يساهمون في انتعاش اقتصاد المنطقة وتحريك عجلة التنمية فيها.
لقد عرفت الثقافة الاستهلاكية في المغرب تحولات بنيوية جذرية، حيث أصبحت المبالغة في الاستهلاك والتركيز على المظاهر الباذخة والإصرار على العيش في مستويات اجتماعية تفوق طاقتنا المادية، سلوكيات مترسخة لدى شرائح واسعة من المغاربة. تحولت العطل المدرسية والصيفية إلى موسم مسابقات تتنافس فيه الأسر على السفر إلى الوجهات الأكثر رفاهية. لقد انتهى زمن نزوح الأسر المغربية «القانطة» في المدن الداخلية، والتي كانت تشد الرحال بداية شهر يونيو نحو منازل ذويها من سكان المدن الساحلية، لتمكث ضيوفا غير مرحب بهم إلى غاية اقتراب موعد العودة إلى المدارس. اندثرت ثقافة قضاء العطلة مع العائلة الكبيرة وبهذا نكون قد أسدلنا الستار على عهد كانت تصنع فيه ذكريات الطفولة الذهبية في بيوت الجدات.
تكمن المفارقة الغريبة في هذا التحول، الذي طرأ على ثقافة السفر، في أن المغاربة قديما كانوا يلجؤون إلى قضاء العطلة برفقة عائلاتهم الممتدة بالرغم من ظروفهم المادية المتواضعة. في المقابل، نجد كيف أصبحت الأسرة النووية الحديثة والمرفهة تفضل النزول في منتجعات سياحية أو كراء شقق الإربنبي الفاخرة تفاديا للتجمعات العائلية الصيفية. فهل ساهم تحسن الأوضاع المالية والاقتصادية للمغاربة في تفكك الروابط الأسرية التي كانت إلى الأمس القريب تعتبر روابط مقدسة لا يجوز المساس بها؟
من المعلوم أن الاستقلالية المالية هي وقود الحرية البشرية. فلا وجود لإنسان حر مادام لا يملك زمام «بزطامه» ورصيده البنكي. لذا كان من المنطقي أن تتفسخ بعض الأواصر الإنسانية التي تم الحفاظ عليها لأجيال متوالية بسبب عوامل الفقر وضيق الحال. إن اصرار الأسرة المغربية الصغيرة على قضاء عطلتها بقليل من البذخ والرفاهية في منتجع شمالي بعيد عن أنظار القبيلة، هو مظهر من مظاهر التحرر من أزمات الأجيال المتوارثة.
غير أن للحرية ثمنا باهظا، فكيف يستطيع مغاربة اليوم قضاء عطل مريحة في ظل جنون الأسعار، وتعاقب الأعياد والمناسبات الدينية، وتربص الموسم الدراسي المرتقب الذي سيشرع بطرق أبوابنا بعد أسابيع قليلة؟ هل نعيش اليوم في ظل سياسة الكريدي مقابل العطلة؟ وكيف يستجم المواطن بأمان وهو يعي جيدا ما ينتظره من ديون متراكمة ومصاريف خيالية بداية شهر شتنبر؟ هل أصبح أيلول الأسود نذير شؤم يحوم حول رؤوس المصطافين ليعكر صفو أجواء الشمال الساحرة؟ هل أصبحت الطبقة المتوسطة وشبه المتوسطة تعيش حالة من الفصام عن واقعها المادي المحدود؟ ولماذا الإصرار على التشبث بتمظهرات اجتماعية لا تتناسب منطقيا مع أرقام أرصدتنا البنكية؟ هل المغاربة أغنياء سرا وفقراء علنا؟
لاحظنا في الأسابيع الماضية تذمرا جماعيا من الارتفاع الصاروخي الذي شهدته أثمنة الأضاحي، لكن، في الوقت نفسه، اكتظت الأسواق بالراغبين في اقتناء أكباش بلغ ثمنها ستة آلاف درهم وأكثر. احتج المغاربة قبل ذلك على الزيادات الصاروخية في بعض المواد الأساسية التي تستهلك في شهر رمضان، لكن، في الوقت نفسه، تهافت الناس في المتاجر الكبرى على الأساسيات والكماليات. ويشتكي المواطن نفسه اليوم من الغلاء الفاحش في أثمنة الفنادق المصنفة والشقق المفروشة، ولكن بمجرد رغبتك في حجز غرفة فندقية أو شقة سياحية تجد أن العدد مكتمل. فهل يعاني المغاربة من غياب ثقافة الاحتجاج الناجع؟ أو أننا نعاني من ثقافة الاحتجاج العدمي المعروف علميا بالنكير الخاوي؟
ونحن على بعد أيام قليلة من الانطلاق الفعلي لموسم الهجرة إلى الشمال، لا نملك إلا أن نتساءل عن حال باقي المدن المغربية العتيقة التي تمتلك مقومات تاريخية عريقة تجعلها وجهة سياحية وطنية ودولية، لكنها تعاني من التهميش والإقصاء الممنهج. يبدو أن فصل الصيف يقلب علينا كل سنة أوجاع غياب العدالة المجالية في قطاع السياحة.