موسم الإلحاد والأديان الجديدة
البروفيسور فيل تسو كرمان (Phil Zuckerman) يعد الأول في العالم للإلحاد الرسمي (Atheismus)، بكلمة أدق بدون دين، فهو يبحث في عقيدة من لا عقيدة له؟ وحين يسأل وهو أب لثلاثة أطفال عن العقيدة النقية؟ وكيف يترك أولاده بدون توجيه من حاخام وكاهن وإمام؟ وهو سؤال يوجه إليه دوما من المؤمنين بالله وهو ليس منهم؟ وأين الفرق بين الخير والشر؟ يكون جواب السيد (فيل تسو كرمان) (سكاكر) أن القيم تتشكل ليس من خلال الموعظة، بل بما يراه الطفل من والديه في تصرفهما اليومي صدقا وعدلا. ولكنه في الوقت نفسه يستقبل مثل هذه التساؤلات بفرح ويعلق إنه باب رزقي وبه أتكسب حياتي.
إنه البروفيسور الأول من نوعه الذي يشرف على دورات تدريبية في تدريس (الإلحاد)، وأن يعيش الإنسان بلا دين؟ وكعالم اجتماع فهو يبحث في (كلية بيتسر) في لوس أنجلوس (Pitzer College) كيف يعيش الملاحدة والإنسانيون (Humanist) والغنوصيون (اللا أدريون؟) وفرق أخرى من التي لا تعتنق دينا ولا تؤمن بوحي وكتاب ويوم آخر وملائكة ومرسلين والقضاء والقدر خيره وشره؟ كيف يربون أطفالهم كيف يواجهون مشاكل مثل الفقر والألم والظلم؟ والمرض والعوز والشيخوخة والموت؟ في أسئلة الوجود الضخمة؟ كيف يعالجون مثل هذه المسائل بدون آلهة تعين وصلوات تخفف. بدون وعود عن حياة أخرى بعد الموت؟
الرجل يزعم لنفسه أنه يعتمد أرقاما إحصائية حيادية؟ ونحن نعرف أنها دوما غير حيادية ومتحيزة حسب زاوية الرؤية، وكيفية وضع السؤال؟ ولمن يوضع؟ وأين وكيف ومتى؟
يقول (تسوكرمان) إن الشائع عن أمريكا، أن التدين يزداد فيها استفحالا، وهو غير صحيح؟ فحسب البيانات التي بين يديه يفر الناس من الدين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة؟ وهناك قريبا من نصف مليون سنويا يودعون الدين والديانة، وهذا يمشي باضطراد منذ 25 عاما، تبلغ نسبة من هم دون الثلاثين عاما 32 في المائة.
وقبل فترة قصيرة دعا إلى مؤتمر حضره 50 باحثا من عشر دول، لدراسة الآثار الاجتماعية للحرية الدينية تركا، أو اعتناقا؟ ليصلوا إلى النتيجة التي تقول إن مزيدا من التعليم والرفاهية تتماشى مع ضعف الاهتمام بالتدين.
أذكر من صديق لنا حضر إلى السعودية حين كنت في الدمام، والرجل كان استشاريا في علم الأنسجة، قال لي: أرى الناس هنا يكثرون من الدعاء حين الخروج للطرقات. نحن في أمريكا كان النظام يحمينا أكثر من أدعيتكم. هنا تذكرت قانون الدعاء، أنه في مواجهة المجهول الذي لا تنتهي حوافه، وليس مقابلة عالم الشهادة بالدعاء، فهذا ليس من الدين ولا العقل؟
ويضيف (تسوكر مان) لعل الدانمارك البلد الأول في العالم بدون دين يعيش برفاهية وأمان، وتكسب فيه النساء ما يكسب الرجال. (لنتذكر الآية 32 من سورة النساء (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما)).
(تسوكر مان) يرجع إلى عائلة أيضا غير متدينة، أبوه في ألمانيا كان يغني باللغة (اليديشية وهي لغة قريبة من الألمانية)، تخفى من النازية، ثم دبر هربه إلى لوس أنجلوس عام 1936م، أما والدته كاثي (Kathy) فكان أحب إليها الشواطئ أكثر من المعابد؛ فكانت مشهورة بالتزلج على أمواج الشاطئ.
كانت صدمته الأولى مع الدين حين أخذته صديقته كريستي (Kristy) إلى الكنيسة الأنجليكانية، وعمره 15 سنة، وحينما قالت لي إنها تؤمن بالله ضربت بيدي على رأسي، وكانت صدمة لي، وكأنها قالت في جعبتي شيطان (KOBOLD)؟ مما يروي من سيرته الذاتية أنه استقر لمدة سنتين في الدانمارك، ليدرس النتائج الميدانية لمجتمع نبذ الدين خلف ظهره؟
وفي الدول الإسكندنافية وصل إلى القناعة التي تقول، إن غياب الدين مريح جدا، وإن دوره في المجتمع على ما يزعم المحافظون أنه يمسك بتوازن المجتمع باطل، ولا يقود قط إلى الفوضى (Anarchy)، والدانمارك تحديدا أثبتت الكثير من السلام الاجتماعي ونسبة جريمة أقل. ويقول إنه من حسن الحظ تحول الكنائس إلى الدولة مما يجعلها مملة للرواد.
من ينظر في الشرق المنكوب يتعجب من اقتتال أهل الديانة الواحدة بكل ضراوة عن اختصام أناس قبل آلاف السنوات؟ توقفا في مربع الزمن والعقل، وهو يحكي قصة ولادة أمريكا بعيدا عن هذه الحمى الشيطانية، ويخطر في بال البعض أن أمريكا (بيوريتانية) والصحيح أن آباء أمريكا المؤسسين كانوا واضحين في ذلك بفصل الدين عن الدولة، ومع الحرب الباردة لجأت أمريكا إلى طبع عبارة على الدولار الأمريكي، بالله نثق (In God we trust)، ولكن أصبحت الحرب الباردة للماضي.
ويمضي (السيد سكر Zucker) الذي يدرس الإلحاد في دورات في كلية بيتسر في كاليفورنيا، في تفنيد مزاعم أثر الدين في حياة الناس أنه يطيل العمر ويمنح الصحة، أنها كلها تأثيرات مزعومة تتطلب البرهنة العلمية؟
أذكر في هذا الصدد قصة لي من القصيم حين طلب الطبيب المسيحي، عفيف، مني مساعدته في مراجعة دائرة المرور، ليقف على رأسنا ضابط واعظ أنه ثبت علميا في بريطانيا؟ أن الأموات المسيحيين يسود لونهم بالوفاة، أما المؤمنين فيأخذون اللون الأبيض، (تأمل العنصرية)، ومن أجل هذا نصح صديقي بإعلان إسلامه دون إبطاء؟
يقول محمد كامل حسين في كتابه حول القرآن، إنه ليس أفظع من قضية صحيحة يتبناها محام غبي فاشل.
دعاية هذا الرجل أثرت على شخصية هامة من حجم (بارت كامبولو Bart Campolo)، الذي كان والده المستشار الخاص لكلينتون في القضايا الدينية، ويروي عن هذا الحنين إلى المجتمع الكنسي القديم، حتى تعرض لحادث كاد أن يودي بحياته، فتغير الرجل وتحول إلى دين الإنسانية وودع الكنيسة ويعمل كمرشد إنساني في جامعة كاليفورنيا، ويتحدث بغبطة عن جمال الطبيعة ونظرية التطور. لقد تأثر بالسيد (سكر) ويثني عليه كثيرا.
لا ننسى صفحات الأنترنت التي تضم قطعانا كبيرة من العلمانيين والملحدين والكافرين بكل شيء. علينا تذكر فيلسوف القوة الألماني، (نيتشه)، الذي كفر بالكنيسة واللاهوت والكهنوت وأعلن موت الله، و(فوكو) الفرنساوي الذي كفر بالإنسان، وكلها مواجهات ساخنة مع دين استبد يجب التخلص منه، وهو ما سيلحق المنطقة العربية، وحيث التشدد الديني في دول الخليج سينبت فرقا لا دينية سمية إلى أبعد الحدود، ونحن نعرف أن نتائج الرهبانية كانت الستربتيز.
أمام ضغط الألحاد نشأت كنائس من نوع جديد، مثل كنيسة التفكير الحر (Universal life Church) التي تأسست عام 1959 م، وفي خفية من الأعين في كاراج سيارات قريب من سان فرانسيسكو؟
تعتمد مقولة عش واترك غيرك يعيش وفيها 20 مليون قس. وبعضهم يبحث للزواج عن الملحدين بغير دين؟
يبقى السؤال فعلا ماذا يعتقد اللادينيون؟ ومن خلال مئات المقابلات عرف عنهم أنهم لا يأبهون لفكر ما بعد الحداثة، وإنما يميلون إلى الأفكار الليبرالية من أهمية السلام والإشباع الثقافي وحقوق الإنسان، وهي في الحقيقة قيم يشترك فيها اللادينيون وأهل الأديان. ليصل الجميع إلى الفقرة الذهبية التي تقول: (ما لا تريده لنفسك أن يجنيه الآخرون افعل نفس الشيء تجاه الآخرين).
وماذا عن الحزانى ومرض السرطان والمصابين بالشلل الرباعي، لقد سأل المتدينين ونقيضهم ليصل وبثقة إلى مصدر عزاء قوي، إنه الجمال العابر لهذا العالم ولا شيء سواه.
إنه أمر مفاجئ في الوقت الذي تعتبر الأديان أنه أقوى الأدوية في يدها لمواجهة مصير مظلم؟ من الخوف من الموت فهناك حياة بعده.
يقول الملحدون حينما أموت ينطفئ النور. أما المؤمنون فهم يخافون من يوم الحساب.
وهناك إحصائيات جيدة لصالح المؤمنين فهم أقرب للإنفاق والرحمة من نقيضهم، الذين يرون أن هذا واجب الدولة، فهم بخلاء، أنانيون، لا يريدون مساعدات من أي مؤسسة خيرية.
مع هذا فالسيد (سكر) في حالة حرب غير معلنة بين عائلته وعائلة زوجته المتدينة، فهو يحافظ على عدم إفساد العلاقة بينهما، ويترك لأولاده حرية الخيار أن يصلوا على مائدة الطعام، أو أن يعتنقوا ما يشاؤون من أفكار، وهنا نرى أن غير المتدينين أكثر تسامحا من المتدينين.
هنا يرجع السيد (سكر) من جديد للإحصائيات ليقول، إن الدم أهم من ماء الكنيسة، فإن كان الوالدان من عقيدة اللا دين فسيكون الأولاد حتى 95 في المائة منهم بدون دين. وحين يطلب منه أن يعظ وينشط لفكرته يوم الأحد، يقول لا هو للاستراحة وأحب إلي نومة الضحى ولعبة كرة القدم والتفسح والاستلقاء والارتخاء.
أين هذه المفاهيم من فكرة الفطرة الإنسانية، وأن المرء يهوده أبواه أو ينصرانه أو يسلمانه أو يكفرانه.. عن أثر البيئة في تشكيل العقائد. فهل الإلحاد أفضل من الإيمان. جواب أستاذ الرياضيات، جيفري لانج، الذي اعتنق الإسلام عن الإلحاد أنها حالة لا تطاق.
من المهم إذن معرفة لماذا يلحد من يلحد؟ ولماذا يؤمن من يؤمن؟ وإن كان القرآن قرن الإلحاد بالظلم (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ـ الحج 25)، فهذه هي المسألة التي قضت مضجع الملائكة عن الخليفة الإنسان: أنه يفسد ويسفك الدماء، وليس أنه كفر، أو آمن؟