شوف تشوف

الرأي

موجة البرد ومعطف «الرايس»

طقس بارد في المرتفعات هذا الأسبوع. وهذا يعني أن هناك من استقبل رأس السنة بأسنان يصعب السيطرة عليها أسفل الغطاء، في الوقت الذي يتبادل المغاربة والعالم كله التهاني بدخول عام آخر في زمن الاتصالات والسفر إلى الفضاء والسيارات الكهربائية، بل وصناعة شرائح اللحم من الخلايا الحيوانية.
أمام هذه القفزة العالمية، لم يستطع العلم بعد إنهاء الفقر ووضع حد لمكابدة أزيد من ثلثي سكان العالم، في معاناتهم مع البرد والصقيع والأمية.
في الوقت الذي يتبادل فيه برلمانيو الرباط التهاني بدخول السنة الجديدة، ويقوم البعض بتسخينات للانتخابات التي نحن بصددها خلال الأشهر المقبلة، كان أزيد من عشرة شبان نواحي الأطلس الصغير يناضلون لإيصال آخر الوجبات الساخنة إلى مأوى للمشردين يحتمون داخله من برد الشتاء، ودرجة الحرارة التي وصلت إلى أدنى مستوياتها هذه الأيام.
«الليالي» التي قال أجدادنا إنها أقسى أيام السنة الفلاحية، تزيد من معاناة العائلات التي تتوفر على منازل، وليس المشردين فقط.
يعيش مئات آلاف المغاربة موزعين فوق الخارطة بمحاذاة سلسلة جبال الأطلس بدرجاته الثلاث، حيث تنخفض الحرارة إلى أدنى مستوياتها وتصل إلى درجة تتجمد فيها المياه في الصنابير، وتنفق فيها الحيوانات، رغم أن أصحابها يحاولون قدر الإمكان توفير تدفئة لها، لكي تبقى على قيد الحياة، وتُستعمل في نقل النساء الحوامل إلى المراكز الصحية التي تبعد عن تلك القرى بساعات من المشي بين المضايق والمرتفعات.
البغال، هي وسيلة النقل الوحيدة، التي يجهل عدد كبير من المغاربة أنها سلالة نادرة انخفضت أعدادها بشكل كبير في المغرب، التي تستعمل لنقل السلع والبشر في مناطق جبلية، يستحيل أن تصلها السيارات والشاحنات.
ولعل الأساتذة الجدد الذين نجحوا في آخر مباريات الأكاديميات وتعاقدوا مع الدولة للتدريس، سيعلمون أن هناك مغربا آخر يعيش في المرتفعات، لا يتنقل سكانه إلا بالبغال، حيث تصبح السيارات الرباعية والشاحنات المدرعة بدون أية فائدة.
ومنذ انتشار الأنشطة الاجتماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والحملات الخيرية لصالح سكان الجبال، أصبحت موعدا سنويا لا يخلفه عدد كبير من النشطاء بمختلف انتماءاتهم. منهم مدرسون تابعون لوزارة التربية الوطنية، ومرشدون اجتماعيون ومهاجرون مغاربة بالخارج، بالإضافة إلى رياضيين سابقين ووجوه معروفة في الساحة. ولولا هذه الحملات في المغرب وخارجه، لما وجد هؤلاء المنسيون ما يسدون به جوعهم.
وفي العام الماضي، وهذه قصة واقعية وليست نكتة سمجة من تلك التي يرددها الساخرون من كل شيء، قام أحد المنتخبين الذين يمثلون سكان سلسلة من القرى قرب مرتفعات الأطلس نواحي مراكش، داخل المجلس الإقليمي، برحلة قصيرة إلى مدينة باريس بغرض السياحة خلال عطلته السنوية.
وهناك، وبينما هو يتجول بين محلات التخفيضات، ويحاول تفحص جودة معطف صوفي ثقيل، فإذا بعدد من أبناء القرية التي كان يترأسها، يقفون أمامه ويلقون عليه التحية بلهجة محلية لا تخطئها الأذن وينادونه باسم لا يعرفه إلا سكان القرية العارفون بماضيه، قبل أن ينجح في الانتخابات الجماعية خلال التسعينيات.
وبينما جاهد المنتخب لبلع الإهانة محاولا تبادل التحيات الباردة التي تقصر اللقاءات العابرة، كان الشبان الثلاثة يصيحون في وجهه بأعلى صوتهم أنه سرق أموال القرويين، وجاء بها إلى باريس ليشتري المعطف الذي يعادل ثمنه قيمة خزانة كاملة من الأدوية في المستوصف الصغير، الذي تحول إلى خربة مهجورة رحل عنها الممرض وسكنتها القطط.
وقبل أن يفلح أحد في إخراج الهاتف النقال لتوثيق اللحظة، اختفى المرشح أثناء تدخل رجال الأمن الخاص للمحل، وعندما عاد إلى مسكنه في مراكش، وجد أن الخبر قد سبقه إلى هناك. بل إن بعض المجازين في الدوار توعدوه إن زارهم في المستقبل أن يلطخوا معطفه الأنيق بمادة القطران. سأله أحد مرافقيه: «نعاماس كيفاش غادي تمشي للدوار عند هادوك الناس مرة أخرى؟»، فأجابه ببرود بأنه سوف يذهب إليهم في المستقبل بجلباب صوفي أسود وليس بالمعطف الفرنسي، حتى لا يلقي عليه أحد القطران.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى