من أراد لفكره أن ينتشر فليرحل باتجاه اللغة الإنجليزية، ومن أراد أن يحبس في أربع وعشرين زنزانة عربية، ويكتب في بحر من الأميين فليتقن لسان الضاد الذي لا يجمعنا. وحاولت جامعة دمشق أن تخوض حربا خاسرة في التعريب، فأضرت من حيث لم تنفع. وزاد التيار القومي المرض مرضا، فاشتدت الحمى القومية بعد قرن من وداع أوروبا لها. وأصيب الأكراد بالعدوى فانتقل إليهم فيروس القومية، واختنق العقل العربي والكردي معا. وسيلحق الكرد والعرب والترك والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فليس من شعب وأمة وقوم محصنين ضد هذا الفيروس.
ومن كان من السعداء النجباء ولد حيث الإنتاج المعرفي ومؤسسات البحث ومصارف المال، ولو بقي «أحمد زويل» في مصر لما نال جائزة نوبل، ومات «مكوما» في أكفان ثقافة ميتة. أو على أحسن الأحوال بقي أستاذا جامعيا يحاضر لطلبة نائمين في قاعة باهتة، ولكنها التربة الغربية التي جعلته شجرة باسقة طلعها هضيم.
وفي يوم حاول الرفاق الثوريون أن يضحكوا علينا بالشعارات، فنادوا بالحرية والوحدة والاشتراكية، لينقلب الثلاثي هذا إلى ثلاثي رعب من الديكتاتورية والتفرق والفقر المدقع وميزانيات دول مفلسة يسوقها عتل من المخابرات، وكونوا حولها الأحزاب ولكنها لم تزد على حلقات صوفية يبايع فيها القائد بيعة أبدية، مثل شيخ الحلقة الصوفية.
وضحكت علينا الحركات الإسلامية بأنها (صحوة)، ونحن نعلم أن (الصحوة) لا تزيد على أحلام نائم في كوابيس دموية بين العراق والجزائر وأفغانستان وسوريا وعبدان.
وقد يستغرب المرء فشل الاتجاهين القومي والإسلامي، ولكن لا غرابة لأن كل الاتجاهين يرضعان من الضرع نفسه. وهي ثقافة تكومت على مر العصور والدهور من طبقات تكتونية متراكمة من الفكر المعيق المرضي عبر العصور، مهيء للزلازل والبراكين في أي وقت ولا علاقة له بإسلام وقرآن. والثقافة عندها قدرة أن تشكل قرآنا جديدا، فالقرآن يقول بسياحة المرأة، والثقافة تخنق المرأة في البيت، واللباس الأسود رمز للحداد على ثقافة ماتت. لحسن الحظ فإن الأرملة المغربية تلبس الأبيض رمزا للحداد.
وفي يوم كان شيوعيا عربيا يتكلم عن التغيير عندما يملكون «التراكتورات» على أساس أن الأشياء تغير الأفكار، وهو بهذا لم يزد على حديث جداتنا اللواتي ينتظرن تغيير العالم مع مجيء المهدي، وسماها ماركسية تقدمية. وهكذا فهناك (مشكلة) في العقلية العربية. وكل من التقدميين والإسلاميين يورثون مقاعد الحكم لذراريهم من بعدهم، لا فرق بينهم فقد خرجوا من أصلابهم، وثقافة الأرحام أثقل في الميزان من ثقل الجبل فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
وحاول «مالك بن نبي» في كتابه «مشكلة الأفكار» تبين مكان المقتل في الثقافة العربية، وعزاه إلى نوعين من الجراثيم سماها الميتة والقاتلة. وهما صنفان مختلفان تماما كما في علم الجراثيم فهناك الذي يتلون بلون وآخر، ويسميها المخبريون «الغرام الإيجابي Grampositive» و«الغرام السلبي».
وكذلك الأفكار فمنها (الميتة) ومنها (القاتلة)، فأما (الميتة) فهي الأفكار التي نشأت في بيئة فعملت بحيوية لفترة حتى انتهت صلاحية عملها وما زالت تعمل خارج وقت صلاحيتها، مثل (الدواء) الذي انتهى وقته (EXPIRED)، ونحن نعلم كم هو خطر تناول الدواء بعد انتهاء صلاحيته، وهو (الفكر الأصولي). وينصحنا «مالك بن نبي» أن نودع هذه الأفكار مقبرة كما هو الحال في مقابر البشر، لأن بقاء الجثث بدون دفن خطير على الأحياء. وهذا أمر نفعله مع أحب الناس إلينا من أم وأب، ولكننا أمام الأفكار الميتة نفعل العكس فنحافظ عليها مع كل خطرها.
وأما الأفكار القاتلة فهي التي لم تنته صلاحية عملها، ولكنها نقلت إلى غير وسطها الأساسي بدون مراعاة للشروط الفنية، كما في برلمانات أوروبا ومجلس الشعب في الأنظمة الثورية.
وكل من الفكر الميت والقاتل السبب خلف عجزنا الهائل ويأسنا المقيم. وما نحتاجه هو تغيير كامل الثقافة وبناء ثقافة (إنسانية)، كما حصل مع أوروبا في فكر «إيراسموس» و«توماس مور» و«سبينوزا».
ويمكن تشبيه هذا بوحدة الدم، فهي إن نقلت إلى مريض محتاج من الزمرة نفسها مع انتهاء الصلاحية قتلت المريض، وهي إن نقلت مع دوام الصلاحية، ولكن مع اختلاف الزمرة قتلت المريض أيضا، كأن ننقل إلى مريض يحمل زمرة دم (0) وحدة دم من فصيلة (AB). والدم الذي يفيد هو الذي يحمل الزمرة نفسها مع صلاحية الفترة.
والأفكار القاتلة، حسب تعبيرات «مالك بن نبي»، تعمل بصورة جيدة في ظروفها التي تنشأ فيها، فإذا انتقلت إلى بيئة مغايرة حملت معها الضرر. وهذه فكرة فلسفية هامة أن الأفكار والأشخاص ليسوا بحد ذاتهم شرا محضا أو خيرا محضا، بل تتعلق بالشروط التي يعملون بها. وحسب «ج . ا. هادفيلد»، عالم النفس البريطاني، في كتابه «علم النفس والأخلاق»، فإن «الشر ليس أمرا موضوعيا، بل هو وظيفة خاطئة، والوظيفة الشريرة هي استعمال اندفاع خير في وقت خاطئ في مكان خاطئ نحو غاية خاطئة». فالبخل هو انحراف للتملك، والغرور هو انحراف لحب الظهور، والشر مثل القذارة مادة في غير مكانها. والتحدي الأرسطي كما جاء في كتاب «الذكاء العاطفي Emootional Intelligence» لـ«دانييل جولمان Daniel Goleman»، «أن يغضب أي إنسان فهذا أمر سهل … لكن أن تغضب من الشخص المناسب وفي الوقت المناسب وللهدف المناسب وبالأسلوب المناسب، فليس هذا بالأمر السهل».
خالص جلبي