شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

موت الأفكار وانبعاثها

 

بقلم: خالص جلبي

 

في عام 1762 م واجهت الطبيب «لامبرت» معضلة لم يرها في حياته، حيث أُحضر لعيادته رجل مصاب بطعنة حادة اخترقت الشريان العضدي في الذراع، وبدأ الشريان يقذف بالدم، مما هدد حياة المريض.

وهذه الحادثة جاءت في السيرة عن «سعد بن معاذ»، الذي أصيب بسهم في الأكحل في وقعة الخندق، ووصفت العرب ذلك الشريان بأنه «العرق الذي لا يرقأ»، ثم مات الصحابي رضي الله عنه بالنزف لاحقا حينما انفجر عليه.

وفي كتاب «التصريف» للزهراوي شرح لمعالجة نزف الشرايين وأمهات الدم، أن معالجتها الوحيدة ربطها بخيوط الحرير، وهي خيوط غير قابلة للانفكاك والذوبان.

وكان الطبيب «لامبرت» ـ حسبما تعلم ـ يعرف أن الشريان له علاج واحد هو الربط بذلك كما جرى العرف الطبي، ولكن الرجل جاءته فكرة مثل وميض برق، فقال في نفسه إن هذا الثقب يمكن خياطته فماذا يحدث لو تمت خياطة مكان الثقب في الشريان، كما نخيط بالخيط مكان الثقب في الثوب؟ وهكذا أمسك الرجل بخيط فمر على مكان الثقب وخاطه، فتوقف النزف لوقته.

كانت العقيدة الطبية يومها أن أي مادة تلامس جدار الشريان تعني تجلط المجرى الدموي، ولكن الرجل غامر طالما كانت النهاية ربط الشريان، واحتمال تموت الطرف المصاب. قام «لامبرت» بهذه العملية في عمل طبي لم يسبقه إليه أحد، وعرض ما حصل معه في لقاء للجراحين لاحقا، لكنه تعرض للهجوم كالعادة، وأنه خاطر بحياة المريض، وأنه عمل منكرا من العمل مخالفا لكل قواعد الجراحة، وأنه قامر بحياة مريضه إلى آخر السيمفونية المعروفة بين زملاء المهنة، فليس هناك أكثر من التحاسد والتباغض والتآمر على بعض، مثل أبناء المهنة الواحدة وأولاد العمومة والقرابة، كما حرر الغزالي ذلك في كتابه «إحياء علوم الدين». ولكن ما فعله «لامبرت» عام 1762 لم يتابعه أحد وماتت الفكرة بين سخرية الزملاء عليه وإحباطه، وعدم تطور تقنية الأدوات ومواد الخياطة وطرق التعقيم. واستمر الأطباء في ربط الشريان النازف ـ حسب العقيدة الطبية السائدة ـ سيما في الحروب التي كانت تستعر في القارة الأوروبية.

والقراصنة في البحر كانوا مدربين على قطع الرجل بمجرد إصابتها بجرح بالغ، لأنهم يعرفون أن صاحبها سيموت بتسمم الدم، ومعهم الحق نوعا ما في ظل غياب شروط التعقيم والعمل الجراحي المعقم والصادات الحيوية. وكانت عمليات البتر تجرى بنصل حاد مع الإمساك بالمذكور وإعطائه كمية كبيرة من الخمر، مع ضربة على الرأس تفقده صوابه، أثناء القطع. وبعدها كان يعمدون إلى تغطيس الطرف المبتور في الزيت المغلي.

ومن الغريب أن أفكار «لامبرت» حول معالجة إصابات الشرايين ماتت أكثر من قرن ولم تبعث، مما يؤكد أن انتشار الأفكار يحتاج إلى (وسط) لانتشارها أكثر من صلاحيتها بالذات. وهذه القاعدة تصلح لكل فروع المعرفة، وإن كانت أوضح في الميدان الطبي لمساسها المباشر بحياة الناس. وقبل مائة عام كشف عن نوع من البكتيريا في المعدة، ولكن لم يخطر في بال أحد أنها سبب القرحة، واليوم تعالج القرحة بدواء لمدة أسبوع بدون جراحة، في حين أن جيلنا وأنا منهم كنا في ألمانيا (الغربية يومها) نجري عملية قطع العصب المغذي للمعدة في أقسامه السفلية، وهي المعروفة باسم (HSV=High selective vagotomy).

وفي عام 1882م قام جراح آخر بخياطة جانبية لوريد كبير واستعمل الشعر البشري في الخياطة، واليوم يخيط جراحو الأوعية بشيء قريب من هذا، فيستخدمون خيطا في نحافة الشعرة (برولين قياس 0=6 وأنحف غير قابل للذوبان، ويبقى في الجسم حتى القبر). وقديما كان يكشف عن مرض السكر بتذوق البول بطرف اللسان، لأن عتبة السكر إذا تجاوزت 180 ميليغراما في لتر الدم انطرحت مع البول، وكانت دليلا قاطعا على الإصابة بالسكر. وهو ما كان يفعله ابن سينا كما جاء في كتابه «القانون».

وفي عام 1877م تجرأ «نيكولاي» على إجراء خياطة الأوعية الدموية عند الكلاب، وفي عام 1898 قام ألكسيس كاريل، مؤلف كتاب «الإنسان ذلك المجهول»، بتدشين الخطوات الأولى في فن جراحة الأوعية الدموية. ولكن هذا النوع من الجراحة لم يتطور فعلا، إلا بعد الحرب الكورية في الخمسينيات.

وهذا الجدل الإنساني عجيب أن الحرب تسرع الاكتشافات العلمية، ولكنها تنقلب لاحقا لتتحول إلى وسائل يستفيد منها الناس في الحياة السلمية المدنية، على رغم أنف جنرالات الحرب، تحت القانون القرآني أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. هذا ما حدث لشبكة الإنترنت والصواريخ العابرة للقارات والسلاح النووي. فالأولى كانت مشروعا عسكريا واليوم لا يستغني عنها أحد، وعدد الذين يستخدمونها في الصين لوحدها 52 مليونا. والصواريخ حملت الأقمار الصناعية إلى الفضاء الخارجي، بعد أن كانت تحمل القنابل الذرية لمسح أي مدينة على وجه الأرض. ومن بطن السلاح النووي خرجت المفاعلات النووية التي تمد بالطاقة؛ فبدلا من تفجير قنبلة ذرية في واحد من مليون من الثانية، يمكن استخدام المادة نفسها لإنتاج الكهرباء لعشر سنوات، في إنارة مدينة متوسطة الحجم. أو إرسال قمر صناعي يعبر النظام الشمسي إلى عالم المجرات، كما في المركبة الفضائية «فويجر»، التي تسبح خارج منظومتنا الشمسية حاليا. والذي أريد قوله هو إن الأفكار تموت مثل البذور، حتى يأتي وقت الربيع فتنبت أخضر متراكبا من طلعها قنوان دانية. وفي الإنجيل أن الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية (إنجيل متى 21- 42).

نافذة:

أفكار «لامبرت» حول معالجة إصابات الشرايين ماتت أكثر من قرن ولم تبعث مما يؤكد أن انتشار الأفكار يحتاج إلى وسط لانتشارها أكثر من صلاحيتها بالذات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى