موال عابر للقارات
سهيل كيوان
امتزجت دموع ذوي الشاب المصري الذي قفز من القطار بعد ضبطه وزميله بلا تذاكر بدموع اللبناني والسوري والعراقي والفلسطيني والجزائري واليمني والليبي والشيلي والبوليفي والهونغ كونغي والصيني والفيتنامي..
حادثة الشابين المصريين اللذين قفزا من القطار، ليست قضية احتيال قيمتها بضع عشرات من الجنيهات، أو التفاف على القانون وعلى الحق العام، ولا هي فظاظة مفتش التذاكر، ولا الناس الذين راقبوا متفرجين، هو في جوهره خلل قيمي عميق في قيمة الإنسان في نظرته لذاته، وقيمته بالنسبة إلى السلطة بكل فروعها. القفز من القطار هو فضيحة وشاهد على التلاشي المتسارع لقيمة الإنسان في هذه البقعة من العالم..
لم يثر المواطن العربي ضد فساد عادي يعرفه، فالفساد ليس جديدا، ولن ينتهي حتى يوم الدين، ولن تكون هناك مدينة فاضلة على وجه الأرض حتى في أفضل بقاع العالم، ولكنه ثار عندما تجاوز الفساد قدرته على التحمل، ثار لكرامته التي تهدر كلما أراد الحصول على رغيف أو على إنارة مصباح أو نغبة ماء نظيفة.
ينتفض الناس مطالبين بإسقاط الفاسدين، ولتأسيس أجهزة قضائية مستقلة، تنظر إلى كل الناس أمامها من زاوية ودرجة واحدة، أجهزة قادرة على حماية المواطن الضعيف أمام أضراس المؤسسة المتوحشة.
في لحظة ما، توهم كثيرون بأن الجماهير العربية عادت إلى القمقم مذهولة، بعد ما حصل من حروب دموية في الوطن العربي، وخصوصا النموذج السوري الذي أغرق بالدماء والخداع، ولكن الشعوب غير قادرة على التوقف، لأن الوقود يأتي من أعماق ذواتها، ليس تحريضا من أحد ولا فتنة ولا كراهية، إنها انفجارات داخلية حتمية، ولا توجد إمكانية سوى استمرارها حتى الخلاص والشفاء، لأن التوقف لا يعني الوقوف، بل التدحرج إلى حضيض أعمق من سابقه. انفجر اللبنانيون راقصين ودابكين وهاتفين ومنشدين من أعماق أرواح موجوعة، ليكتشفوا أن جميعهم يعيشون الداء الخبيث نفسه، وأن ورم الظلم لا يفرق بين دين أو مذهب أو جنس أو شمال أو جنوب، ومثلهم العراقيون، اكتشفوا أن ملة المظلومين واحدة، وملة الفاسدين واحدة، وإن تغيرت مسمياتها. عادت الجماهير العربية إلى الساحات هذه المرة بزخم وروح جديدة، معززة مستلهمة وملهمة عبر القارات، من الشيلي وكتالونيا وبوليفيا وهونغ كونغ وغيرها.
التحريض على المنتفضين والحديث عن أجندات أجنبية، وتدخل سفارات أجنبية صار مادة مثيرة للسخرية، حتى من يطلقونها يخجلون بها، السيد حسن نصر الله لم يستطع اتهام السفارات الأجنبية فورا ومباشرة، لف ودار واعترف بأن الجماهير محقة في حراكها ضد الفساد، وما لبث أن أخرج مكنون صدره واستدار، وزعم أن هناك يدا لسفارات أجنبية، ولكنه بدا غير مقتنع بكلامه هو نفسه. العالم الذي أرادوه بلا رقيب أو حسيب على النهب والفساد، ينتظم ويتحول إلى طاقات شعبية فوق حزبية وفوق دينية وفوق طائفية وفوق شعبوية وعابرة للقارات.
الشعوب المقهورة تطالب بحياة كريمة، غير محصورة في حزب ولا طائفة ولا مكان، وعلى الطغاة والفاسدين إخلاء الطريق أمامها لتعيش كما تشاء هي، وليس كما يشاؤون لها أن تعيش، وإلا فسوف يُرحّلون وهم صاغرون ولو بعد حين.
الطوفان العالمي الذي نراه يشبه طوفان نوح، لن يستثني أي منطقة في العالم، والمنطقة العربية أكثر غليانا من غيرها، ولكن هناك شعوبا أخرى كثيرة تنتظر لحظتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر شعب إيران الذي ليس من الطبيعي أن يبقى تحت نظام آيات الله إلى الأبد، فهناك شيء جوهري يطمح إليه الإنسان في كل مكان وزمان، هو الحد الأدنى من العيش الذي يضمن له كرامته، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فهناك نافذة ضرورية للروح تسبح فيها بحرية، بدون إملاء أو فرض من أحد.