بقلم: خالص جلبي
«مملكتي ليست من هذا العالم» و«من أخذ السيف بالسيف يهلك» و«جعل السبت للإنسان، ولم يجعل الإنسان للسبت»، هذه ثلاث جمل كان يعظ بها المسيح في الجليل. في إعلان نهاية العالم القديم، وأن القتل لا يحل المشاكل، وأن القوانين وضعت لخدمة الإنسان وليس العكس، وأن العبرة في النصوص روحها وليس كلماتها الميتة.
لقد جاء المسيح للتخلص من الطقوس، ولكن الكنيسة قلبته إلى دين حافل بالرموز والأسرار. والمسيح جاء بالسلام، ولكن الكنيسة شنت الحروب الصليبية لمدة 171 عاما، وأنشأت محاكم التفتيش لمدة خمسة قرون. والمسيح لم يقل يوما عن نفسه إنه الله، ولكن الكنيسة حولته إلى إله في مركب أقانيم يعجز عن حلها البابا ومجلس الكرادلة.
وفي يوم سبت وقف المسيح يعظ المخابرات وموظفي الدولة المرتشين، فرأى المتدينين من اليهود أنه خالف الشريعة مرتين: أنه يجلس إلى القذرين من الناس، وأنه يمارس العمل يوم السبت. وكان جوابه إذا سقط خروف لأحدكم في النهر يوم السبت، أيتركه يغرق أم ينقذه؟ أو ليس الإنسان أهم من خروف؟ ثم إن هؤلاء القذرين في أعينكم مرضى، والمرضى يحتاجون إلى طبيب وليس الأصحاء.
وعندما وقعت في أيديهم الزانية رأوا أنها أفضل فخ لاصطياده، فإن رجمها سلموه إلى الرومان بتهمة القتل، وإن امتنع عن تطبيق الشريعة كان هرطيقا مخالفا للشريعة. فالتفت إليهم المعلم وقال: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر. فانقشع جمهور الفقهاء عن رأسه، واحتاروا في أجوبته. وكان يكلمهم بأمثال، وكان يتكلم كمن له سلطان وليس مثل الكتبة والفريسيين.
وبقدر ما صدَّق المسيح من جاء قبله، فقد كذَّب كل المعاصرين له من الكتبة والفريسيين والصدوقيين. ودعا إلى هدم العالم القديم فقال: «مملكتي ليست من هذا العالم»، وهي جملة نطقها المسيح في وجه «بيلاطس»، حينما سأله إن كان ملك اليهود؟ فلما كررها ثلاثا قال: أنت تقول ذلك، ثم عقب فقال: «مملكتي ليست من هذا العالم».
وحسب الفيلسوف الألماني «أوسفالد شبنغلرOswald Spengler »، فإنها كانت مواجهة بين عالمين، والمسيح نفض يده من عالم اليهود والرومان معا. فأما اليهود فكانوا يرون خلاصهم بتدمير روما، وأما روما فدمرت اليهود على يد «تيتيوس» عام 70 م، فمزقوا شر ممزق وأصبحوا أحاديث في ملفات التاريخ والدياسبورا. حتى ورطتهم الصهيونية بالدخول إلى الأرض المقدسة، بوعد مكذوب من بريطانيا، ومحرقة نووية من فرنسا، وجبل ذهب من الألمان، وتشجيع من الإنجيليين الأمريكان، حتى يدفنوا فيها في حرب عبثية ودهاء غربي للتخلص من اليهود بأيد يهودية، كما جاء في قصة الثعلب والبراغيث. وعندما جاءه «براباس»، كان يظن أن المسيح يدعو إلى انتفاضة مسلحة على الطريقة الفلسطينية، ولكنه فوجئ بوجهة نظر المسيح التي لا ترى فرقا كبيرا بين الرومان واليهود، فالكل يؤمن بالقتل.
وبقدر بساطة تعاليم المسيح، بقدر تعقيد المفاهيم اللاهوتية. وعندما تبدأ الدعوات تزدان بالحماس والوضوح، وعندما تجف وتتخشب يطوقها الظلام ويغشاها التعصب وتتحول إلى طقوس مملة. وكما يقول المؤرخ «ويلز» فإن المسيح كان نواة المسيحية، ولكن من أسس الكنيسة لم يكن الحواريين، بل بولس، ولم يكن بولس حواريا، ولم يجتمع بالمسيح. وبفعل تشربه بالفلسفة من مدرسة الإسكندرية، فقد قلب مفهوم المسيحية البسيط باتجاه الكهانة والمذبح والقربان وهي مفاهيم كانت طاغية في الـ15000 سنة الفائتة على البشرية. ومنذ العام 600 قبل الميلاد انبثقت أديان وأفكار مختلفة للخلاص الإنساني. والكنيسة تؤكد أنه صلب لغرض وفرض، وهو ما أنكره «جيوردانو برونو»، فلم يعيده إلى التأهيل حتى اليوم، حين رأى كونا لا نهائيا عامرا بالمجرات؛ فما معنى أن يأتي المسيح ليفدي نفسه في كوكب تافه بين مليارات الكواكب؟ والمسيح حينما دعا إلى مذهب ابن آدم الأول أن لا يدافعوا عن أنفسهم في العمل السياسي، لقناعته أن دوامة العنف تبدأ من حجة الدفاع عن النفس، فقال: لا تقاوموا الشر. ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وهو معنى لا نستطيع أن نستوعبه في العمل السياسي، بأن درء السيئة بالحسنة هو الذي يحول العدو إلى صديق حميم، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى طاقة أخلاقية عالية، وبيننا وبين هذا الفهم سنة ضوئية. ونظن أنه حكم منسوخ وأنه لا علاقة له بالإسلام، فنحن قد حفظنا دروس القتل. ومنذ مقتل الإمام علي وحتى الفلوجة وحي التضامن في دمشق، نقتل بدون توقف. وفي كل الحرب الأهلية اللبنانية مات الناس كالذباب، ولكن موت الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا حرك المظاهرات في إسرائيل، لأنهم ماتوا صبرا مظلومين عزل أبرياء. ولو مات الشيخ ياسين بالطريقة نفسها لسارت المظاهرات في كل العالم من أجل قضيته، كما فعلت مع نيلسون مانديلا، ولكنه آمن بالقتل، فقتل بدون ضجة عالمية. ولكن القتل والقتل المضاد لا يحركان ضمير أحد، والقاتل والمقتول في النار. وفي كل عام تخرج المواكب تحمل الصليب إلى جبل الجلجثة. وهي الآلية نفسها التي يستخدمها الشيعة سنويا في مناسبة مصرع الحسين في عاشوراء، فيضربون أنفسهم بالسلاسل والسواطير حتى يسيل الدم. وهذه الآلية النفسية ليست حكرا على المسيحيين أو الشيعة، بل هي متأصلة في جذر التفكير الإنساني، فتجد التعاطف مع البشر السلاميين الذين يموتون من أجل قضاياهم صبرا. لأنه يلبي استعدادا نفسيا عند البشر بنصرة المظلوم، الذي لم يدافع عن نفسه والتعاطف مع قضيته. ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا إنه كان منصورا.
والآن هل عرفنا لماذا كل هذا الإصرار على قتل هذا الرجل السلامي الوديع المسيح عليه السلام؟ لقد فهم الحكام والأغنياء والكهنة حقيقة دعوته وخطرها على امتيازاتهم أكثر من الحواريين. وكما يقول «ويلز» في كتاب «معالم تاريخ الإنسانية»: كان أشبه بصياد أخلاقي رهيب يحفر عن الإنسانية ويخرجها من جحرها الدافئ الذي عاشت فيه دهرا، وتحت أنوار السراج الوهاج لمملكته هذه، لم يكن يجوز أية ممتلكات ولا امتيازات ولا استكبار ولا أفضلية، وليس من حافز ولا جزاء إلا المحبة. أفمن العجيب إذن أن انبهر القوم منه وعميت أبصارهم فتصايحوا كلهم عليه. وحتى بطرس الحواري المقرب أنكره ثلاثا، قبل أن يصيح الديك. فمن العجيب إذن أن يدرك الكهنة والرومان أنه لم يكن بين هذا الرجل وبين أنفسهم خيار، إلا أن يموت هو أو تلك الكهانة.
وكان يمكن أن يصلب المسيح مثل الكثيرين ممن ماتوا أو صلبوا في التاريخ، ولكن ارتباط الصلب بعقيدة الفداء هو الذي دخل عليه الإسلام فنفاه من خلال نفي الصلب. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا، فهنا امتزج التاريخ بالدين بالفلسفة. وما يفتأ هذا الجليلي كما يقول «ويلز» أكبر مما تسع له قلوبنا الصغيرة. وكان بإمكان الجميع أن لا يقيموا مذبحة الماسادا مرة أخرى ويدخل الحزن إلى بيوت كثيرة، ولكن الأمريكيين على مذهب بايدن، والكل يؤمن بالقتل أنه سيد الأحكام. وكلاهما وآخرون من عقليتهم لم يسمعوا بالمسيح والأنبياء بعد.
نافذة:
بقدر بساطة تعاليم المسيح بقدر تعقيد المفاهيم اللاهوتية وعندما تبدأ الدعوات تزدان بالحماس والوضوح وعندما تجف وتتخشب يطوقها الظلام ويغشاها التعصب