مهنة المشي فوق القنابل
يونس جنوحي
يقال إن الترجمة «تخون»، والحال أن الذين يُلقون أنفسهم إليها هم من يمرغونها في وحل الالتباس بين معاني الكلمات وتناقضات فوارق الثقافات، بين لغة اللغة الأصلية واللغة التي يراد النقل إليها.
شبه المترجمون الأقدمون عملية الترجمة بالهجرة. إذ لا يمكن أن تترجم إلى لغة ما، إذا لم تكن ملما بالثقافة بنفس درجة إتقان القواعد.
مناسبة هذا الكلام بعض الانتقادات التي طالت ترجمة جديدة لمرجع أحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين. ورغم القسوة التي قابل بها بعض «حراس المعبد» الإصدار الجديد، الذي صدر في آخر أسبوع من يونيو الماضي، إلا أن بعض ما وصفوها بـ«الأخطاء القاتلة في نقل المعنى»، كانت ذريعة لهم بحكم الغيرة على المحتوى العلمي للكتاب الأصلي. وقد أشارت بعض المنابر الصحافية في المملكة الأردنية إلى أن المترجم يعتزم مقاضاة الذين نشروا مقالات تنتقص من قامته العلمية، حيث تجاوز الأمر خلافات حول النص ليصبح مسألة شخصية.
على كل حال، ما يهمنا في الموضوع أن مسألة الترجمة فعلا تبقى أمرا عصيبا، ولو أن الناس يدركون قيمة الأدب، لأصبح المترجمون مثل الموثقين تماما. أو على الأقل، يتوجب عليهم أداء القسم، خصوصا عند الترجمة من اللغات قليلة التداول عندنا، مثل النقل عن الفارسية أو اليابانية.
وللإشارة فقط، فهناك قاموس ياباني عربي أصدره بروفيسور ياباني، سبق له زيارة المغرب وأقام في دول عربية عديدة، إلى أن تمكن فعلا من تعلم اللغة العربية، ليتولى أمانة نقل عدد من الكتابات بين اللغتين، خصوصا في ما يتعلق بكتب التعريف بالإسلام، وبعض كتابات الأساتذة الجامعيين خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
لكن أقوى التجارب التي يمكن أن نتطرق إليها في تحدي الترجمة، كتاب صدر سنة 1914 لصاحبه الأمريكي C E. ANDREWS. ، تكمن قوة هذا الكتاب في أن صاحبه جاء إلى المغرب وأقام في مدينة طنجة لفترة، قبل أن يقرر الانتقال إلى أكادير جنوبا، ويذهب إلى الحاكم العسكري الفرنسي، ويطلب منه السماح له بمرافقة كتيبة عسكرية فرنسية ليزور منطقة الأطلس، وقد عنون كتابه الذي يحكي فيه هذه التجربة بـ«المغرب القديم والأطلس المُحرم». وهذه الترجمة للعنوان الأصلي تبقى مجرد اجتهاد، لأن الكاتب وظف لغة بليغة جدا أثناء تأليف كتابه، الذي جمع فيه كلمات الأغاني الأمازيغية خلال القرن الماضي.
التحدي الذي كان أمامه أنه استعان بعسكري فرنسي، وهذا الأخير كان يفسر له كلمات الأغاني التي يرددها «الروايس»، في الأسواق الأسبوعية والاحتفالات في دار القياد، الذين زارهم في جبال الأطلس وسهل سوس وينقل له معانيها من الأمازيغية إلى الفرنسية، ويتولى هو تدوينها باللغة الإنجليزية. وهذه العملية وحدها تحتاج إلى صبر كبير، وإلمام بناصية اللغة لإيجاد الكلمات المناسبة للمعاني.
فكلمات الأغاني الأمازيغية في ذلك الوقت كانت حافلة بالرسائل السياسية، التي تحذر من الفرنسيين، وتصفهم بأصحاب العيون الزرقاء أو «النصراني»، وتشبه وجودهم داخل قبائل الأمازيغ بظلمة المياه، وتشبه الشعر الأشقر للجنود، باصفرار المحصول الزراعي في سنوات الجفاف.
كل هذه الصور استطاع هذا المترجم نقلها بأمانة إلى الإنجليزية.
في المقابل، باءت محاولات كثييرة بالفشل قادها أناس يعتقدون أنفسهم «علماء» يا حسرة. حتى أن أحدهم قبل خمس سنوات، يسمي نفسه مستشرقا ويعمل لدى دار نشر فرنسية مرموقة جدا تدفع له مقابلا محترما مقابل ترجماته، ترجم اسم «أبي هريرة»، بصاحب القطة الصغيرة. هكذا ببساطة. ويسمي نفسه مستشرقا.
من أطرف ما رُوي عن الترجمة، أن مدينة طنجة بحكم أنها كانت منطقة دولية خلال القرن الماضي، فقد كانت قبلة لعدد من المترجمين. منهم من كان عابرا ومنهم من جاء إليها بهدف الاستقرار والبحث عن عمل لدى الإدارات الأجنبية. حتى أن مترجما سنة 1904، كاد أن يتسبب في حرب بين فرنسا والبرتغال. إذ كانت قنصلية للبرتغال في مدينة الصويرة، كلفته بنقل رسالة إلى اللغة الفرنسية، لكنه قلب كل شيء وأصبح للرسالة معنى آخر، حتى أن القنصل الفرنسي في طنجة ظن أن البرتغاليين يحاولون استفزازه. ولولا تدخل أحد الموظفين لساءت العلاقات بين البلدين، بسبب خطأ في الترجمة. حتى أن القصاصة التي نقلت الخبر في أرشيف مكتبة لندن، شبهت مهنة المترجمين في ذلك الوقت بأنها تشبه المشي فوق القنابل.