شوف تشوف

الرأي

مهمة القارئ

عبد السلام بنعبد العالي

سنة 1954 كتب مارتين هايدغر في تمهيده لكتاب «مقالات ومحاضرات»:
«ما دام هذا الكتاب باقيا أمامنا من غير أن يقرأ، فإنه يكون تجميعا لمقالات ومحاضرات. أما بالنسبة لمن يقرؤه، فإن بإمكانه أن يغدو كتابا جامعا، أي احتضانا واستجماعا لا يكون في حاجة لأن ينشغل بتشتت الأجزاء وانفصالها عن بعضها. فقد يجد القارئ نفسه وقد انتهج طريقا سبق لمؤلف أن سلكه. إن ساعد الحظ ذلك المؤلفَ، وبما هو auctor فإنه يكون وراء نمو وزيادةaugere .
في هذه الحالة، وكما في سابقاتها، يتعلق الأمر ببذل مجهود عبر مساع لا تنقطع، كي يُهيأ مجال لما كان ينبغي التفكير فيه منذ الأزل، لكنه ما زال لم يُفكر فيه بعد. إنه مجال يَطلُب فيه اللامفكر أن يُعمَل فيه الفكر انطلاقا من الحقل الذي يُوفره ذلك المجال.
ليس للمؤلف، إذا كان بالفعل اسما على مسمى، أن يعبر عن شيء أو أن يبلغه. بل، ليس عليه حتى أن يرغب في أن يدفع ويحرض، لأن من حُرضوا ودُفعوا قد أصبحوا متيقنين من معارفهم مطمئنين إليها.
ليس في إمكان المؤلف المتوغل في طرق الفكر، في أحسن الأحوال، إلا أن يومئ ويشير من بعيد، من غير أن يكون هو نفسه حكيما بالمعنى القديم للكلمة.
إنها طرق فكر يكون فيها ما مضى قد مضى وولى من دون شك، لكن ما يوجد في طور الاستجماع يظل معلقا في طور المجيء: إن مثل هذه الطرق تنتظر اليوم الذي يتوغل فيها أناس يفكرون. بينما يرغب نمط التمثل الجاري به العمل، وهو النمط التقني بالمعنى الواسع للكلمة، أن يذهب دوما أبعد فأبعد فيجر معه الجميع، فإن الطرق التي تومئ وتشير تكشف أحيانا منظرا على مرتفع وحيد». (Heidegger. M, Essais et conférence, Gallimard, 1958, pp5-6).
يبدأ الفيلسوف الألماني بأن يستبعد كثيرا من المعاني التي تعطى عادة للمؤلف والأدوار التي تناط به. أولها أن المؤلف يعبر عن شيء يجول في خلده، وأنه يبلغ معاني يمتلكها، والأهم من ذلك أنه يحمل رسالة، ويناط بمهمة، فيسعى إلى توجيه القراء وهدايتهم سواء السبيل. يعارض هايدغر كل هذه المعاني مبينا أن المؤلف لا ينقل معارف يمتلكها، فهو ليس حكيما وإنما هو، كعرافة معبد دلف، يكتفي بأن يومئ ويشير، أن يدل ويحيل. وأقصى ما ينشده، إن هو وقع على القارئ المناسب، هو أن يكون وراء نمو وزيادة توغل في طرق الفكر.
ذلك أن القارئ هو الذي يحول «تجميع مقالات إلى كتاب جامع»، هو الذي «يؤلف» الكتاب ويركب مقالاته، هو الذي يجعل من شتات الكتاب وحدة، فيسدي للمؤلف معروفا بأن يجعله وراء نمو. يستعمل هايدغر الكلمة اللاتينيةaugere ، وهي تحيل إلى الفعل اللاتيني augeoالذي يعني زاد ونما. في مقطع مهم من كتابه «فن الجسور» يتوقف الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير عند مشتقات هذا الفعل فيكتب: «إن المعنى الحرفي للفعلil «octorise» يعني يسمح autorise بالمرور. كيف ذلك؟ الفعل اللاتينيaugeo ، الذي يعني زاد ونما، ولد كثيرا من الاشتقاقات، حيث نجد بينها السماح بـ autorisationورسوم الضريبة octroi. ها قد عاد المؤلف l’auteur يتعذر علينا الإيمان بذلك. ولكن إذا كانت كلمة octroi قد استعاضت عن الـ au بحرف o، فإنها قد احتفظت بالحرف c الذي فقدته كلمات المؤلف auteur وكلمة السماح بـ autorisationوباقي مشتقاتها في اللغة الفرنسية، هذا في الوقت الذي احتفظت به اللغة الإنجليزيةauction ».
(Serres. M, L’art des ponts, Le pommier, 2013, pp46-47)
هذا الربط بين المؤلف auteur وبين السماح
بـautorisation، يسمح لنا بأن نقول إن المؤلف لا يعمل في الحقيقة إلا على السماح بـأنه يمهد الطريق، أو كما يقول هايدغر، يفتح طرق الفكر. فلا ينجر وراء «نمط التمثل الجاري به العمل، وهو النمط التقني بالمعنى الواسع للكلمة، الذي يريد دائما أن يذهب أبعد فأبعد فيجر معه الجميع».
لا يعني ذلك تقليلا من أهمية المؤلف، ولا استصغارا لقيمته، ذلك أنه يظل هو الذي «يبذل مجهودا عبر مساع لا تنقطع، كي يُهيأ مجال لما كان ينبغي التفكير فيه منذ الأزل، لكنه مازال لم يُفكر فيه بعد». إنه هو الذي «يتوغل في طرق الفكر ليتبين ما يظل معلقا في طور المجيء». لكن هذه الطرق تظل، على رغم ذلك، مجرد إشارات وتلميحات، وهي تحتاج إلى «قارئ يجد نفسه وقد انتهج طريقا سبق لمؤلف أن سلكه». فإن كان ذلك المؤلف محظوظا، فإنه سيقع على قارئ يعمل الفكر في ما لم يفكر فيه بعد.

القارئ هو الذي يحول «تجميع مقالات إلى كتاب جامع»، هو الذي «يؤلف» الكتاب ويركب مقالاته، هو الذي يجعل من شتات الكتاب وحدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى