شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

مهرجانات فلكلورية وعروض بهلوانية وموسيقية تبهر المارة بأزقة المدينة

الكتاب «لو تكلمت حيطان فاس-16- نعيمة برادة كنون

كنت أحب كثيرا الذهاب إلى متجر أبي بالحي التجاري “العطارين” لكي أطلب منه أن يشتري لي بذلة، أو أن ينفحني بعض النقود لأجل مصروف الجيب، أو لأكن صريحة، وأعترف لكم اعترافا كاملا، أنني كنت فقط أتذرع بكل هذه الأمور لأجل الخروج من البيت. فكل يوم كان يمثل لي فرصة لا تعوض للقيام باكتشاف أشياء أخرى جديدة غالبا ما تكون غريبة وعجيبة. حدثان بقيا راسخين بذاكرتي إلى الآن: أولهما كان لقائي بإحدى ممتهنات السحر والشعوذة، وثانيهما تمكني من زيارة مدرسة جد راقية زيارة “رسمية”.

مقالات ذات صلة

خالد فتحي نعيمة برادة كنون

كانت المهرجانات الفلكلورية التي تجري عادة بالأزقة تبهرني حقا، إذ ما زلت قادرة أن أتخيل، وبعد مرور كل هذه السنين الطويلة، مجموعة ولاد “سيدي حماد أوموسى” التي كانت تقدم لوحات رياضية معقدة وألعابا بهلوانية خطرة، وكذلك فرقة كناوة التي كانت تمتاز بنمطها الموسيقي المغربي الفريد القادم من جنوب الصحراء (عبارة عن فرقة صوفية ذائعة الصيت لها طقوس ذات محتوى ديني تمزج بين ما هو دنيوي فاني، وما هو أخروي مقدس).

كان التنقل من بيتنا الكائن بدرب الروم إلى حي العطارين، يتطلب مني أن أمر بدروب وأزقة عديدة. لم يكن قطع تلك المسافة الطويلة يثير أية مخاوف أو هواجس، لا بالنسبة لي ولا بالنسبة لوالدي.

كانت بعض الأزقة كبداية زقاق الحجر تتميز بصخبها وحركيتها الدائبة. وكان بازار السيد “المزكلدي”، الذي يصادفك في أول الزقاق، يشبه كثيرا مغارة علي بابا. لم يكن المحل الوحيد الموجود هناك، فقد كان العديد من المهنيين يتجاورون ويتراصون جنبا لجنب بمدينة فاس، من ضمنهم أولئك الخياطون المعروفون جيدا على المستوى المحلي، والذين كان أغلبهم ينتمون لقبائل جبالة القريبة. كان سي العروسي أحد هؤلاء الخياطين المميزين الذين يتوفرون على زبائن كثر، لدرجة أنه كان يشاع عنه أنه يخيط الفساتين “القفاطين” للقصر الملكي. كان هذا الشخص بالذات محبوبا من الجميع، وكنت متعودة على زيارته، كلما قام بعرض أزياء جديدة وجميلة على واجهة محله. في إحدى المرات، حاول بطيبوبته المعهودة أن يتودد لي قائلا: “أعلمي أمك أن قفطانك سيكون بنصف الثمن”. لم أصدق الخبر، وكدت أطير من الفرحة بهذا التخفيض المفاجئ، لكن أمي كان لها رأي آخر، فقد قررت، أمام دهشتي الكبيرة، أن تنفحه أجرته كاملة غير منقوصة.

كان جميع الحرفيين يورثون مهنهم لأبنائهم. أغلبهم صاروا فاسيين دون أن يتملكوا لكنة نطق بعض الحروف التي كانت تميز ساكنة فاس. فهم كانوا يحرصون على نطق الراء سليمة، دون تلك اللثغة المميزة التي تظهر في كلام أهل فاس.

في الحقيقة، نجح العديد من القرويين القادمين إلى فاس في الاندماج داخل المجتمع الفاسي. كان أغلبهم حرفيين يستخدمون أطفالا صغارا قصد مساعدتهم. وكانت هذه الظاهرة مألوفة لنا ولا تثير امتعاض أحد. لم تكن القوانين آنذاك قد تطورت لحد أن تشجب أو تمنع عمل الأطفال في الورشات الحرفية.. ففي اعتقاد الصناع التقليديين، لا يمكن تعلم المهنة بنجاح، إلا إذا انتسبت للحرفة في سن مبكرة جدا. لذلك كان عاديا جدا أن نصادف داخل الأزقة أطفالا يفتلون خيوط الحرير للخياطين. كانت حركاتهم المتكررة حين ينجزون عملهم تنم عن رشاقتهم وبراعتهم الكبيرتين، وكنا نحن نقف مشدوهين نراقبهم ولا نكاد نمل من النظر إليهم.

 

حين اكتشفت ساحرة الحي

عند ولوج ساحة حي زقاق الحجر، كانت توجد بوابة اهترأت بفعل عوادي الزمن، كانت ملتصقة بمحل صانع الأسنان السيد الصقلي، وتنفتح على رواق مظلم يوصل إلى منزلين صغيرين. كان مدخل أحد هذين المنزلين شديد الحلكة. وكنت كلما مررت من هناك، إلا وأحث الخطى مسرعة، لأني كنت أشعر بمغص شديد في البطن بسبب الخوف الذي كان لا يلبث يداهمني. كانت أختي الكبرى قد أخبرتني من قبل أن ساحرة ذات مواهب استثنائية، من ضمنها تحضير الأرواح من العالم الآخر، تقطن بذاك البيت المرعب، لذلك تخيلت دائما أنها قد تصيبني بالعين بمجرد أن ترمقني من نافذة منزلها التي تطل على الساحة.

كان يقع لي أحيانا أن ألقي نظرة دون قصد على منزلها، فأتصورها تلاحظني من الأعلى، إلى درجة أني كنت أرى عينها الشريرة، وهي تنفذ إلي عبر ثقب المفتاح. لذلك كنت أنفذ بجلدي وأهرب بعيدا، ورغم ذلك كنت أبقى لمسافة نهبا لتهيؤات مرعبة.

كانت أختي عائشة، التي تفوقني شجاعة وفضولا، قد تجرأت من قبل على استطلاع المكان، إذ سبق لها أن تقفت أثر بعض الأشخاص الذين يقصدون الساحرة لأجل الاستشارة، لذلك حدثتني عنها قائلة بأنها امرأة لا تشبه باقي النساء. شعرها مصفوف بشكل غريب، وينتهي بضفائر مثناة بشرائط من مختلف الألوان علقت عليها أساور فضية موضوعة بشكل عشوائي، وهاته الأساور تحدث رنينا من نوع خاص كلما حركت الساحرة رأسها..

كان تخيل تلك الصور لوحده يثير رعبي، لكن أختي أضافت لذلك الرعب توابل أخرى من خيالها الخصب، منها أنها رأت مشهدا آخر لا يمكن أن يخطر ببال أحد.. رأت الساحرة، وبين يديها طبق كبير من جريد نبتة الدوم (ميدونة)، مملوء بقطع من الزجاج، تقوم بتدويره بسرعة فائقة في اتجاهات مختلفة، مردفة أنها كانت تتمكن من أن تزامن بين الصوت المنبعث من جدائلها وذاك الآتي من شظايا الزجاج، ثم بعد أن تثبت تلك الآنية، كانت تلك الساحرة تشرع في قراءة مستقبل الزبون رجلا كان أم امرأة. كان هذا الطقس الغرائبي يتكرر أمام كل من يطلب خدمتها -تؤكد أختي- وكان زبناؤها، المنبهرون أمام هذا المشهد المثير، لا يحسون ولا ينتبهون لها وهي تفرغ جيوبهم من النقود. هكذا كانت أختي تختم حديثها، مؤكدة أنها تنقل لي بكل الأمانة المطلوبة مشاهداتها. فاغرة فاي، كنت أستمع لهذا السرد الغريب، فأسألها ببراءة الأطفال: “كيف تمكنت أن تبقي كل ذلك الوقت، وأنت تتلصصين عليها، من دون أن تشعر بك وتطردك؟”. لكنها كانت لا تعدم جوابا لهذا السؤال المنطقي، فتذكر لي أن الظلام كان دامسا إلى درجة أن لا أحد انتبه لوجودها، وأنه بالكاد كانت تظهر خيالات الأشخاص الذي يقصدون الساحرة ويجلسون القرفصاء أمامها. رغم وجاهة ردها لم أكن لأقتنع به، أو لينطلي علي، فأحذرها قائلة: “كوني يقظة في المرة القادمة، إذا أمسكتك فلن تتركك حتى تسلط عليك جنيا أو روحا شريرة”، لكنها كانت واثقة جدا من خطتها، فتجيبني بكل مكابرة: “لن يحصل هذا أبدا، لأن هذه الروح الشريرة لن تستطيع التحليق إلي لتتلبسني، فبيتها أبرد من الصقيع”. كانت هذه الأجوبة المفحمة التي تتوالى على لسان أختي تبدد من مخاوفي، لكنها لم تكن تتلاشى بشكل كامل.

كانت الشعوذة منتشرة في أوساط الفئات الهشة أو عديمة الحظ، التي لم يبتسم لها القدر، ولم تلطف بها تصاريف الحياة. كانت هذه الآفة تستقطب بالذات هذه الفئات، لأنها كانت تمدها ببصيص أمل زائف. إذ ليست الشعوذة بكل بساطة إلا انحرافا عن الإيمان القويم، وخروجا عن التقوى الفعلية.

كانت للعديد من الأحياء مشعوذاتها اللواتي يمارسن عملهن بغير قليل من السرية والتخفي، إذ إن لا أحد من السكان كان يذهب إلى حد أن يستنكر أعمالهن، فبالأحرى أن يتجرأ على مطاردتهن.

كانت والدتي تقول: “إن الوضع يسوء أكثر، عندما تلبس المشعوذة لبوس الدين”.

فعلا كان المجتمع آنذاك منقسما إلى فئتين: جهلة ومغفلون لا يشكون أبدا في صدق المدعين من الأتقياء المزيفين، ومتنورون يهتدون بنبراس العقل يقاطعون “خدماتهم” طبقا لما يأمر به الدين الصحيح وإيمانا منهم بالقدر خيره وشره.

في عديد من المرات، راودتني الفكرة الشيطانية بأن أصحب أختي إلى منزل الساحرة، لكن نفوري التلقائي من الشعوذة كان لا يلبث يقف حائلا بيني وبين ذلك. كانت أمي قد أفهمتنا أن من يمارس الشعوذة ليس له سوى هدف واحد: الكذب على الناس لأجل سرقة أموالهم.

هكذا، وبفضل شروح والدتي ودعمها، تخلصت من كل مخاوفي، وصرت أتوقف دون خوف، وبكامل ثقة بالنفس في ساحة زقاق الحجر، دون أن أخشى أذى تلك المشعوذة، كي أتفرج على الاحتفالات التي عادة ما تكون هذه الساحة مسرحا لها.

وصرت، رويدا رويدا، عوض أن أفكر في زيارة الساحرة، أفضل أن ألقي نظرة في ساحة المدرسة الوطنية الخصوصية المرموقة: الحسنية.

 

مدرسة الحسنية ومدرسة اللمطيين

كانت مدرسة الحسنية أفخم بناية بساحة حي زقاق الحجر، وكنت من جهتي أحس تجاهها بفضول كبير. كانت بداخلي رغبة جامحة تلح علي لاستكشافها، خصوصا وأن خالي كان يشتغل معلما بها.

كانت هذه المدرسة تلقن بالأساس موادها التعليمية بالعربية، فهي من المؤسسات التي كانت تعد إلى جانب عديد المدارس من بنات أفكار الوطنيين. ففي تلك المرحلة، كانت توجد ثلاثة أصناف من التعليم: تعليم عربي عتيق أسسه رجال الحركة الوطنية، ونوعان تعليميان آخران يستجيبان لتوجهات المستعمر الفرنسي كانا ينقسمان بين مدارس أبناء الأعيان، ومدارس البعثة الفرنسية.

في نظري، كل هذه التسميات كانت مجافية للواقع، لأنه كان بوسع أطفال جميع الطبقات الشعبية، دونما أي استثناء، أن يتسجلوا للدراسة حيث يرغبون.

كانت أول مدرسة رأت النور بفاس هي مدرسة اللمطيين بدرب العامر التي لها سبق المساهمة في تكوين أول نخبة متعلمة بالمغرب.

كان قد أسبغ على هذه المدرسة لبرهة من الزمن اسم “مدرسة عبد الرحيم بوعبيد” لأن هذا الزعيم الوطني الفذ عمل معلما بها طيلة سنة 1942، إضافة لذلك تخرج منها أعلام بارزون ميزوا مسيرة المغرب الحديث، إذ كان من تلامذتها: الأستاذ الحمياني، والجواهري مدير بنك المغرب، والفيلسوف الألمعي محمد لحبابي.. إلخ.

كان أبي يحدثنا بحماس بالغ عن أستاذه الفرنسي الذي كان يلقنه الرياضيات، مادته المفضلة، كان لا يفتأ يحكي لنا عن معاناته من صعوبة شديدة في نطق بعض الحروف بالفرنسية. كان كل الذكور، سواء في عائلتي الصغيرة أو الكبيرة، قد أمضوا فترة دراستهم الابتدائية بهذه المدرسة المعطاء.

بعض التلاميذ استطاعوا في ما بعد أن يصبحوا معلمين بها كالسادة: العلوي، برادة، بنعيسى، الداودي، عمور، ميكو…إلخ.

لا أدري إن كان علي أن أذكر أن العديد من تلامذة مدرسة اللمطيين وثانوية مولاي إدريس صاروا من خيرة الوطنيين الأشاوس، الذين جاهدوا الاستعمار بشتى الوسائل. لقد أدت مثل هذه المؤسسات التعليمية دورا معاكسا لما كانت تنشده أو ترغب به سلطات الحماية، فهدف الجنرال ليوطي كان يتمثل بالأساس في تكوين عناصر متعلمة تكون في خدمة إدارته الاستعمارية… نوع من النخبة المحلية يمكنه الاعتماد والتعويل عليها لأجل الحكم. ذاك كان الغرض الحقيقي والمُبَيَّت من إنشاء “مدارس أبناء الأعيان” والإعداديات الإسلامية الفرنسية التي أسست سنة 1915 (إعدادية مولاي إدريس بفاس، ومولاي يوسف بالرباط)، لكن هذا التعليم سيقلب ظهر المجن للمستعمر، وسيصبح مصعدا اجتماعيا لأبناء الفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. إذ لم يكن هؤلاء التلاميذ، المنحدرون من هذه الأوساط، يستسيغون أن يقع بلدهم تحت نير الاستعمار.

كان هؤلاء التلاميذ رافضين للمستعمر، وفي الآن نفسه وطنيين واعين بضرورة أن يلتحق بلدهم المغرب بركب الحداثة، التي سيعتبرون أن من أبرز تجلياتها الدعوة إلى تمدرس الفتيات.

كان للصحافة العربية دور كبير في رسم مسار العديد من أولئك الشباب، حيث تمكن البعض منهم رغم تواضع انتمائهم الاجتماعي، من الالتحاق للدراسة بالتعليم العالي بالخارج.

كان عمي عبد اللطيف، الذي تابع دراسته بمونبليه الفرنسية، كما تدل على ذلك شهادته المحصلة سنة 1957، قد أسر إلي بأن أقصى ما كان يمكنه الطموح إليه أن يكون موظفا بسيطا، لولا تلك النصيحة الثمينة التي أسداه إياها الوطني الغيور سي أحمد مكوار قائلا له بالحرف: “إنه لأمر جيد أن تحصل على شهادة التخرج من الإعدادية بميزة مشرف، لدرجة أن يترجاك مدير وكالة البريد بالبطحاء للعمل لديه، لكن يجب أن تعي أن وطنيا ملتزما مثلك لا يجب أن يسعى للعمل مع المستعمرين. فإذا كان المال هو ما يعوزك لمتابعة دراستك، فما عليك إلا أن تقصدني”.

لكن عمي الذي كان معروفا من قبل الجميع بإبائه الشديد فضل أن يرفع طلبه ذاك لوالدي، الذي لم يتردد بدوره في أن يقوم بواجبه كأخ أكبر، وفي أن يتحمل كل مصاريف أخيه الدراسية، إلى حين الحصول على الدكتوراه.

كان فاعلو الخير يتكفلون بمصاريف ونفقات التلاميذ المحتاجين. وفي هذا الصدد، كانت المدارسة والأضرحة أفضل النماذج الناجحة لهذا الدعم المجتمعي. كان عمي يتقن اللغة العربية ويتكلمها بطلاقة، مثله في ذلك مثل كل تلاميذ جيله، الذين قضوا سنوات من طفولتهم الأولى بالمدرسة القرآنية التي تدعى (المسيد)، والتي كانت تتلوها تباعا بعد ذلك المرحلتان الابتدائية والإعدادية، حيث كانت الفرنسية من دون العربية لغة التدريس الوحيدة. هذه الأخيرة سوف لن تدمج ضمن لغات التدريس إلا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، لحسن الحظ أن منظومة الكتاتيب القرآنية كانت كافية لضمان مستوى رفيع من العربية ومن الثقافة الإسلامية، لذلك كان الانتساب إليها أو للمدارس التي أنشأتها الحركة الوطنية أمرا إجباريا وحيويا بل وحاسما.

بعض رفاقي بالقسم كانوا قد حصلوا على شهادة التعليم الابتدائي من هذه المدارس، قبل أن يغيروا الوجهة نحو المدرسة العمومية المجانية التي فتحها الاستعمار. كانت إدارة المدرسة تعفيهم من بعض المستويات الدراسية نظرا لمستواهم المتفوق. وبعد الانتهاء من الإعدادي كان التلاميذ يتسجلون بالتعليم الثانوي في الثانويات المسماة بالإسلامية التي كان قد أنشأها الفرنسيون، كثانوية مولاي ادريس.

كانت الثانويات المختلطة التي استقبلت عند إنشائها أول مرة التلاميذ الأوربيين فقط، قد فتحت أبوابها منذ سنة 1944 للتلاميذ المغاربة، مما مكن عمي، الذي سيصبح ثالت صيدلاني بفاس، من الحصول على الباكالوريا سنة 1951. للأسف لم يكن بمقدور الفتيات فعل نفس الشيء إلا بعد ذلك بسنوات عدة. كان عليهن أن ينتظرن قرار السلطان المغفور له محمد بن يوسف طيب الله ثراه لكي يسمح لهن بالانتقال إلى طور التعليم الإعدادي.

ولكن، لنعد أدراجنا الآن إلى المدرسة الوطنية “الحسنية”، فأنا أريد أن أسر لكم، أن منتهى أملي كان النظر في بوابتها الفخمة التي كانت تطاول في نظري عنان السماء. كانت أروقتها واسعة جدا، ومزخرفة بشكل رائع بفسيفساء جميلة تسبغ على المكان هيبة وجمالا ووقارا لا توصف. ما زلت أتذكر كيف نجحت في إحدى المرات في الولوج إليها، وكيف غمرتني حينها أضواء فنائها الداخلي الكبير، وكيف أنعشني أريج الروائح المنبعثة من أشجار الليمون، والياسمين والبرتقال الموجودة هناك. أذكر أيضا أني قمت بالتجول بداخلها، وقلبي يخفق أشد ما يكون الخفقان، وأنا أتلفت حوالي يمنة ويسرة، محاولة أن أرى كل شيء دفعة واحدة. كنت متوجسة كل التوجس من أن يكتشف أحدهم أني مندسة وغريبة عن المؤسسة. لكن الجرة لم تسلم رغم سعيي للتخفي. إذ باغتني الصوت الجوهري للمدير الذي ميزني من بين كل التلاميذ: “هل تبحثين عن شخص ما يا صغيرتي؟”. أجبت وأنا دائخة: “أنا معجبة جدا بمدرستكم، والآن أنا منبهرة أكثر بظرفكم البالغ”. راق له جوابي الذكي، فقرر أن يرفع منسوب الثقة عندي، ليقودني بنفسه في جولة قصيرة بين ثنايا المكان. كنت جد ججلانة بتصرفه الراقي ذاك، خصوصا وأنه ألح علي أيما إلحاح كي أقوم بهذه الزيارة التي ختمها بقوله: “إن مدرستنا ملك لكل الأطفال، لذلك يمكنك أن تطلبي من أبويك أن يسجلاك بها”. نقلت أمنية المدير إلى المنزل، لكن القرار كان قد اتخذ سلفا داخل العائلة بتسجيلي في مدرسة أخرى للتعليم المزدوج للغات، ومع ذلك ظلت مدرسة اللمطيين المدرسة الأحب والأعز على قلبي، حيث لم تغادرني أبدا صورة ذلك المدير البشوش واهتمامه البالغ بطفلة في مثل سني.

عشرات السنوات بعد ذاك الموقف النبيل، سأعلم أنه كان عالما كبير وشاعرا مفوها يدعي سي سعد الدين الكتاني. أخبرني بذلك الدكتور رضوان بنشقرون الإمام السابق لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. فهو واحد من تلامذته.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى