شوف تشوف

الرأي

من ينصت إلى حكمة الخبراء المحايدين؟

لم يبد انزعاجا من رفض المغرب وساطة الأمم المتحدة في الدخول على خط الأزمة التي كانت قائمة بين الرباط ومدريد، أثناء الرمق الأخير للمفاوضات الذي كان يهدد بأزمة أكثر اتساعا. روى دبلوماسي غربي سابق عمل في الأمم المتحدة، أن الأمين العام كورت فالدهايم تمنى عليه إعداد تقرير مفصل حول الأوضاع في الصحراء، يسعفه في فهم إشكاليات الملف، تاريخيا وقانونيا وسياسيا.
كان الدبلوماسي الفرنسي أندري لوين اشتغل سفيرا لبلاده في غينيا، وانضم إلى الأمم المتحدة بحكم خبرته في القضايا الإفريقية وأوضاع المنطقة المغربية. وعندما كلفه كورت فالدهايم باستقراء تطورات الملف الذي علق عند آخر مواجهة دبلوماسية بين الرباط ومدريد، سعى إلى الإحاطة بكافة المعطيات والجوانب القانونية والتاريخية والديمغرافية والجغرافية، ليخلص، بعد مشاورات وتحريات دبلوماسية دامت حوالي ثلاثة أشهر، متنقلا عبر العواصم، إلى أن جميع القرائن التي تعتمدها الأمم المتحدة في تعاطيها والنزاعات الإقليمية ترجح كفة المغرب، صاحب الحقوق المشروعة، ضدا على كافة الادعاءات والمزاعم.
رأى في خلاصاته الموثقة أن إقامة أي كيان يفصل بين المغرب وموريتانيا، إنما يندرج في نطاق إقصاء الحقائق التاريخية وتكريس هيمنة حكومة مدريد على ضفة الساحل الأطلسي المقابل لسواحل جزر لاس بالماس. ولم يحل ذلك التقرير دون استمرار جهود كورت فالدهايم الذي كلفه مجلس الأمن الدولي برصد الأزمة الناشئة بين المغرب وإسبانيا. ولم يتجاوز الإطار المرسوم لمهمته، بخاصة وأن الرباط أبدت ممانعة في إعادة الملف إلى دهاليز الأمم المتحدة، لأن لها تجارب غير مشجعة في تدويل النزاعات الإقليمية بلا طائل.
روى لي دبلوماسي مغربي عمل سفيرا في أحد بلدان أمريكا اللاتينية، أنه التقى على مائدة عشاء بالأمين العام الأسبق بيريز ديكويار، الذي كان أقر خطة التسوية السلمية للتوتر القائم، والتي لم يبق منها صامدا سوى وقف إطلاق النار. قال إن ديكويار الذي كان متحمسا لإمكان نجاح خطته تلك، أبدى أسفه حيال منهجية التعاطي ونزاع الصحراء. وكشف أنه لو كان في وسعه أن يعاود كتابة ديباجة وأسطر خطته تلك، لكان وضع في الاعتبار التأثير المتزايد لتوزيع ساكنة الصحراء بين المغرب والجزائر وموريتانيا. أقله أن ذلك التوزيع الذي تم بالإكراه في الحالة الجزائرية، وفق كل الشواهد، كان يحول دون إيجاد تسوية نهائية، ما لم تتم معالجة أوضاع «اللاجئين الصحراويين»، على حد تعبيره.
أن يعترض أمين عام سابق على الخطة التي وضعها في مجالس خاصة، فالمسألة تبدو أكثر وضوحا، حين يضع أي مسؤول مسافة أطول أمام ما كان يتصوره حلا لا بديل عنه. إلا أن مسؤولين رفيعين في الأمم المتحدة ما انفكوا يجاهرون بأن خطة التسوية التي أقرها ديكويار أصبحت متجاوزة، لأنها كانت في أصلها وجوهرها ناقصة. وإلى اليوم لم تفلح الجهود المبذولة في مجرد التعرف على الأرقام الحقيقية للأشخاص المقيمين قصرا في مخيمات تيندوف. وسيحتاج الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى إقناع الدول المانحة، على نسق دعوته الأخيرة، بمَ يتعلق الأمر تحديدا، عشرة آلاف أم ثلاثين ألفا أم ستين ألفا؟
لكن الراجح أن نسبة النمو الديمغرافي التي لم تكن تتجاوز 74 ألف نسمة إلى العام 1974، لا يمكنها أن تقفز إلى المستحيل، في ظل وجود أغلبية السكان في الأقاليم الجنوبية المغربية.. وتلك قضية إنسانية واجتماعية أكثر تعقيدا.
بخلفية انشغالاته الشرق أوسطية والإفريقية، كان الأمين العام الأسبق بطرس غالي يدرك جيدا أن معظم الأزمات التي تطوق خصر الدول العربية من مصر إلى المغرب، ذات صلة بالصراع على إفريقيا. ومكنته تجربته على رأس وزارة الخارجية المصرية في فترة دقيقة من الإلمام بأنواع التحديات.. لكنه في قضية الصحراء بالذات لم يكن يرغب في إضافة شيء إلى المسار الذي كانت تتجه نحوه الأحداث.
ومع أنه كان يؤمن بتحديد إطار تسوية المنازعات قبل النفاذ إلى جوهرها، فقد أبدى تبرما واضحا مما آلت إليه جهود منظمة الوحدة الإفريقية التي أوقعت نفسها في المحظور. ولم يرضخ تبعا لذلك لضغوط إفريقية بأن يكون للمنظمة أي إسهام في حلحلة المواقف. كان يهتدي بمعالم خطة سلفه بيريز ديكويار، ولم يمنعه ذلك من الإصغاء إلى أفكار خبراء معنيين، وهو الذي كان يرهن نجاعة المواقف السياسية بالمعرفة الدقيقة للملفات. ولم يكن على وفاق مع الإدارة الأمريكية، خصوصا في تناوله لتطورات أزمة الشرق الأوسط.
بين إفريقية بطرس غالي المتحدر من عائلة مسيحية تجرعت مرارة التوجهات الراديكالية لنظام الحزب الوحيد، وإفريقية كوفي أنان الذي رغب في إقرار نوع جديد من المصالحة بين القارة السمراء وتاريخها الذي لم يكن ناصعا، في ظل الحقبة الاستعمارية، انكفأت مبادرات طموحة. وعندما لم يكن المغرب يريد بديلا للتسوية السلمية التي ترعاها الأمم المتحدة، على مقاس العدل والإنصاف، ألقى كوفي أنان بثقله من أجل وضع أجندة محددة للخروج من المأزق، ثم أدرك كلما توغل في رمال الصحراء أنها ليست بالصورة التي كان يعتقدها. ثم مضى إلى حاله وفي نفسه شيء من حتى التي تطول كما هائلا من الملفات العالقة.
ما كل الخبراء ولا كل الموفدين الدوليين الذين تعاقبوا على الملف، من طينة واحدة. حدث مرة أني كنت بصدد محاورة مسؤول مغربي، بعد أن تولى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر مهمة الوسيط الدولي في النزاع.. سألته إن كان لا يعتقد في أن موقفه الشخصي يمكن أن يتأثر بردود الفعل الشعبية التي قادتها أحزاب المعارضة المغربية ضد حرب التحالف الدولي على العراق.
أمعن في السؤال، وخلص إلى أن ملف الصحراء لا علاقة له بأزمة العراق، والأهم في ذلك أن المغرب شارك في التحالف الدولي على طريقته. لكن النفط الذي كان يسيل اللعاب هو نفسه بالمواصفات ذاتها، أكان في بلاد الرافدين أو في ليبيا أو الجزائر. وما أحوج الأمم المتحدة إلى حكيم في مثل كورت فالدهايم، واستراتيجي مثل بيريز ديكويار وأفارقة من مستوى بطرس غالي وكوفي أنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى