د. خالد فتحي
ليس جينغ بينغ، ولا القيصر بوتين، ولا حتى العائد ترامب الذي «تحيط به عناية الله» منذ معجزة نجاته من الاغتيال، أقوى رجل في العالم.. بل إنه ليس رئيس دولة من يستحق هذا الوصف… إنه حسب ظاهر الأحداث إيلون ماسك مالك تسلا وإكس ومستشار ترامب الأول والمسؤول المقبل عن الحكامة بالإدارة الأمريكية.. فهذا الرجل الذي لم ينتخبه أحد، يبدو أنه يمسك دون أصوات بتلابيب العالم، وأنه صار على حين غرة من المعمور من يصنع الصحو والمطر… أليس هو الملياردير قارون العصر والعبقري والداهية أو الديكتاتور الجديد الذي ما أن يفرج عن تدوينة بإكس، حتى يسهر من جرائها القوم ويختصمون.
الرئيس الفرنسي الذي يزعم لنفسه قيادة أوروبا، خرج عن صمته مؤخرا تجاه القوة المتعاظمة لإيلون ماسك مصعدا من لهجته ومنددا، في ندوة سفراء فرنسا، بما سماه دعم ماسك «لأممية رجعية جديدة» من خلال التدخل بشكل مباشر في مسار الانتخابات الألمانية التي من المتوقع إجراؤها يوم 23 فبراير المقبل محيلا على ما كتبه ماسك على حائطه بأن حزب البديل من أجل ألمانيا هو من بإمكانه لوحده إنقاذها.
لم يكن أمام ماكرون سوى أن ينتفض، فقبل هذه التدوينة التي ارتعدت لها فرائص قادة أوربا، كان إيلون ماسك نشر بأيام معدودات مقالا على صفحات جريدة ألمانية اعتبر فيها أن هذا الحزب هو وميض الأمل الوحيد بألمانيا، وهو ما زاد في رفع شعبية هذا الحزب اليميني في البورصة الحزبية الألمانية.
وبعيدا عن ألمانيا، الواضح أن لا شيء يثني أو يردع إيلون ماسك عن سعيه للتأثير في مجريات الحياة السياسية الأوربية، فقبل ذلك، هاجم أيضا الوزير الأول البريطاني وزعيم العمال كير ستارمر متهما إياه بالتواطؤ في جرائم اغتصاب جنسية بحق أطفال بريطانيين حين كان مدعيا عاما للمملكة المتحدة. وهنا كان إيلون ماسك يبحث عن انتخابات بريطانية مبكرة يفوز بها اليمين المتطرف، لكنه لا يفعل ذلك عن هواية أو إطلاقا للكلام على عواهنه، إذ يخطط بسبق إصرار وترصد. فلا يهمل أي تفصيل ولا تفوته شاردة مما يعني أنه يتصرف تجاه أوروبا برؤية واستراتيجية… ففي المملكة المتحدة، هو يقود أيضا انقلابا ناعما ضد نايجل فاراج، رئيس حزب الإصلاح، لأنه يعتبره غير مؤهل لرئاسة هذا الحزب الذي يحتاج في رأيه لقائد جديد يملك ما يلزم للفوز. يالها من جرأة ومن قوة وذكاء. بريد أن يفرض التنحي على ستارمر وأن يختار كذلك بنفسه خلفه.
هجومات ماسك المتوالية لم تستثن الاتحاد الأوروبي، فقد وجه سهامه أيضا إلى المفوض الأوروبي السابق للشؤون الرقمية الفرنسي تييري بروتون وشبهه بطاغية أوربا. كان تييري قد انتقد تدخله بانتخابات ألمانيا، لذلك استحق منه هذا الوصف وردا آخر قاسيا ذكره فيه بأن التدخل الأمريكي هو الذي جعله لا يتحدث الألمانية أو الروسية في إشارة مبطنة منه إلى الإنزال الأمريكي في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية الذي كان بداية تحرير فرنسا.
هذه الوقائع الثلاث دفعت محللا سياسيا أوربيا حصيفا كباسكال بونيفاص إلى نعت إيلون ماسك بأنه أخطر رجل في العالم. وأن خطورته لا يستمدها من كونه الرجل الأغنى، بل لكونه صاحب شركة تسلا ومنصة إكس، وبالتالي يستفيد من قدرات خارقة على التأثير بمنصات التواصل الاجتماعي، ومن صورته كرجل أعمال يخطط للانتقال الطاقي ولغزو الفضاء، هذا فضلا عن أنه صار ظلا ملازما لترامب.
نعم. هذا الرجل الذي قد تزدريه العين والذي قد يبيت في أحد مصانعه، يرعب قارة بأكملها. لدرجة أن هناك من رفع الراية البيضاء وصار يتضرع إلى الله أن ينشب الخلاف بين ترامب وماسك باعتبار أن شخصية ترامب لن تتحمل شخصا بجانبه أغنى وأقوى منه.
ومع ذلك، يعتقد أغلب المحللين الأوروبيين أن ماسك هو رأس حربة ترامب لتدمير أوروبا، وحصانه الرابح لتغيير نظمها السياسية بإحلال القوى اليمينية في سدة السلطة، وإبقاء أوروبا بالتالي في موقع التابع الأبدي للولايات المتحدة الأمريكية.
تعكس هذه المقولة جانبا مهما من الحقيقة، لكنها لا تعلن كل الحقيقة. ما ينكره قادة أوروبا أن لهم حسابا ينبغي تأديته للرجلين معا؛ ترامب وماسك. بالنسبة لدونالد ترامب، تتناسى أوروبا انها ناصرت بايدن خلال الانتخابات الأمريكية وأنها لابد أن تدفع الثمن. ولا تستوعب أن الطبع يغلب التطبع وخصوصا عندما يتعلق الأمر برئيس بلغ الثمانين، فهو سيعيد نفس السياسة التي نهجها تجاه أوروبا خلال ولايته الأولى بل سيتطرف فيها. ترامب يريد أوروبا مشتتة ضعيفة غير قادرة على منافسته اقتصاديا، أوروبا التي لا حل أمامها سوى أن تكون في ركابه في حربه المصيرية ضد الصين. أما بالنسبة لماسك، فهو لا يريد قوانين أوروبية تحد من نشاط شركاته، ولذلك مر إلى وضع حلفائه على رأس هذه الدول الأوروبية عوض أن يستجدي مثل تلك القوانين المتساهلة. إذن هناك تناسق بين هدفي الرجلين. لكن ماسك يزيد على ترامب بكونه يعتبر أن الحضارة الغربية في شقها الأوروبي آيلة للانهيار. هو ينظر بعين الامتعاض لإيديولوجية الووك التي أغرقت فيها أوروبا نفسها وتسعى لفرضها على العالم، ويريد أن يقود انقلابا ضد هذه القيم المتحررة أو المتفسخة.. ولذلك حين يشن الحرب على الحكومات القائمة حاليا، فهو يمهد للحرب على المثلية الجنسية والتحول الجنسي والنظريات التلفيقية للنوع الاجتماعي. إن له ثأرا شخصيا لدى أوربا، يريد أن ينتقم لابنه الذي تحول إلى أنثى بفعل هذه الإيديولوجيات المناقضة للفكرة التي روج لها اليسار الأوروبي والأمريكي. لقد هزم اليسار بأمريكا، ويتبقى له أن يهزمه بعقر أوروبا.
المشهد معقد، واللعبة السياسية المقبلة لها خبايا وخفايا، وليست ذات خلفية اقتصادية أو سياسية فقط وإنما بالأساس ذات خلفية إيديولوجية وقيمية. فدائما تختفي وراء الصراعات الأفكار والقيم أكثر مما تختفي المصالح المادية.
أوروبا توجد الآن بين كماشتي ترامب وماسك. الأول يطالب بضم كندا وغرينلاند ولاتزال شهيته مفتوحة، والثاني يربك دفعة واحدة ببضع كلمات منتقاة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكل الاتحاد الأوروبي. يقع هذا بينما يقبع بوتين عدو الغرب وسليل الاتحاد السوفياتي آمنا مطمئنا من هجمات الرجلين… من كان منكم، قبل سنة فقط، يتوقع أن يرى مثل هذا المشهد العالمي. المؤكد أنه تنتظرنا أحداث كبرى بعد 20 يناير 2025، فمع ترامب وماسك «مش حنغمض عيوننا» كما يقول إعلان إحدى القنوات الفضائية. لأول مرة سيعيش العالم تحت إمرة رئيسين بالبيت الأبيض. رئيسان متناغمان لحد الآن. وإذا استمر هذا التناغم، سنعيش ما سأسميه «عهد الرئيس الأمريكي المزيد» أو متضخم السلطة، بالتأكيد نحن نسير بسرعة جنونية نحو دكتاتورية عالمية تجرف كل العالم.