من يصرخ أولا: القيصر الروسي أم السلطان العثماني؟
رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلبات نظيره التركي رجب طيب أردوغان، عقد لقاء بين الاثنين لتسوية أزمة إسقاط الطائرة الروسية، آخرها على هامش قمة المناخ في باريس، رغم إلحاحه وقوله حسب ما نقلت عنه وكالة أنباء الأناضول الرسمية «طلبنا لقاء بوتين في اليوم الأول للأزمة وما زلنا ننتظر الرد».
الرئيس بوتين لم يرد، وربما لن يرد على هذه الطلبات، إلا بعد اعتذار علني، ولكن الرئيس أردوغان يرفض تقديم هذا الاعتذار، لأنه يعتقد أن تركيا التي جرى انتهاك أجوائها هي التي يجب أن تتلقى الاعتذار، ولم تفعل إلا واجبها في حماية أجوائها، مثلما قال في حديث لقناة «سي إن إن».
نحن الآن أمام معركة عض أصابع بين رئيسين بينهما الكثير من أوجه الشبه، حتى وكأنهما توأم من حيث الطباع الشخصية، وطرق التفكير، والتضخم الذاتي، والعناد، والكبرياء، والشعبية الكبرى التي يتمتعان بها في بلديهما.
بوتين يريد إعادة عظمة الامبراطورية القيصرية الروسية، ويجد نفسه مرشحا لهذه المهمة، وأردوغان يريد إحياء الامبراطورية العثمانية، ومن المفارقة أن كلا الرجلين انتقل من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية، ويجمعهما قاسم مشترك آخر، وهو التفرد بالسلطة رغم وصولهما إليها عبر صناديق الاقتراع، وتكريس كل السلطات في يديهما، والكراهية للإعلام المناهض، ووسائط التواصل الاجتماعي.
أردوغان وبوتين لم يطيقا بعضهما البعض مطلقا رغم المجاملات الشكلية والمصالح التجارية بين بلديهما، فقبل عام ونصف العام وصف بوتين أردوغان بأنه الرجل القوي الذي يتصدى للغرب، ووقع اتفاقات قبل شهرين لزيادة حجم التبادل التجاري مع تركيا من 30 مليار دولار الآن إلى 100 مليار دولار عام 2020، ومد أنبوب غاز روسي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، الآن أصبح يصفه، أي أردوغان، بأنه «طّعان في الظهر» ويسوق نفط «الدولة الاسلامية»، ويقدم لها الدعم المالي والعسكري، وهو ما نفاه الرئيس التركي بغضب، وكل هذا بسبب إسقاط طائرة روسية في لحظة كبرياء وطني وسوء تقدير سياسي.
في ظل هذا التشابه في العناد والاعتداد بالنفس بين الرئيسين التركي والروسي، يبدو الصدام شبه مؤكد إلا إذا تراجعا وتحليا بالمرونة، وتدخل طرف ثالث بالتوسط، ولكن المشكلة أن «المرونة» تعني التنازل للآخر واهتزاز الصورة، وجرح الكبرياء، وخسارة «ماء الوجه»، ولا نعتقد أن أيا منهما مستعد لهذه المرونة في الحاضر أو المستقبل المنظور، ولا نرى أي وساطة في الأفق.
رفض الاعتذار، وتسليم جثة الطيار الروسي إلى موسكو، وتأكيد عملية قتله بالرصاص بعد أسره وهبوط مظلته، يستغلها الرئيس بوتين والإعلام الروسي لتحريض الرأي العام ضد تركيا وتعبئته خلف مواقفه المتصلبة، الأمر الذي لا يساعد مطلقا في حلحلة الأزمة، والوصول إلى الحد الأدنى من المرونة، وتجنب الصدام بأشكاله كافة.
الغالبية الساحقة من الروس تدعم بوتين لكن ظهور بوادر خلافات بين الرئيس أردوغان ومؤسسته العسكرية يضعف موقفه، وظهر هذا الخلاف على السطح في تلاسن عكسته صحف تركية، نقلت عن مصدر عسكري تركي رفيع معارضته لرواية الرئيس التي تقول إنه «لو كنا نعلم أن الطائرة روسية لتصرفنا بشكل مختلف»، وتأكيده أن سلاح الجو التركي يعرف هوية جميع الطائرات في المنطقة، وانتقاده المباشر للقيادة السياسية التي طالبها بتعلم «فضيلة الصمت».
الخلافات بين المؤسسة العسكرية والرئيس أردوغان، ربما تكون خلف إلحاحه للقاء نظيره الروسي لتطويق الأزمة، لأنه يدرك جيدا أن هذه المؤسسة قامت بأربع انقلابات أطاحت خلالها بحكومات مدنية منتخبة بطريقة ديمقراطية نزيهة شفافة، آخرها حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان الاسلامي عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين.
السيد أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي قال في باريس أثناء مشاركته في قمة المناخ «إن الحدود السورية التركية هي حدود حلف الناتو»، ولكن لا توجد أي مؤشرات على أن هذا الحلف مستعد لخوض حرب ضد روسيا انتصارا لتركيا والسيد أردوغان، فهذا الحلف يكره تركيا الاسلامية، أكثر من كراهيته لروسيا الارثوذكسية، فلم يظهر هذا الحلف أي موقف قوي داعم لتركيا، العضو المؤسس فيه منذ عام 1952، ولعل تغريدات رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسابيراس التي قال فيها أن تركيا انتهكت الأجواء اليونانية 1600 مرة هذا العام فقط، أحد المؤشرات التي توجه اللوم إلى تركيا وتخطئ موقفها وتبرئ بشكل أو بآخر، الموقف الروسي المضاد.
حتى حلفاء الرئيس أردوغان العرب مثل المملكة العربية السعودية وقطر لم تصدر عنهم أي مواقف قوية داعمه له في هذه الأزمة، وكان لافتا أن البيان الذي صدر عن مجلس الوزراء السعودي بعد اجتماعه الأسبوعي (الاثنين) لم يتطرق مطلقا إلى الأزمة الروسية التركية، وقد تحدث عن كل القضايا المحلية والدولية تقريبا، وأظهر تضامنه مع مصر بعد هجوم خلية إرهابية في العريش، وأبدى تعاطفه مع اللاجئين السوريين الذين يتعرضون لحملات عنصرية ويلوذون بالفرار من نيران السلطات الجائرة والجماعات الارهابية، دون أن يسمي هذه السلطات الجائرة بالاسم (سوريا)، أو جنسية اللاجئين.
نحن أمام صراع إرادات، وصدام شخصيات، يتقدم على المصالح التجارية، ولغة العقل والمنطق، قد يتطور إلى صدامات عسكرية بعد أن بدأ بالعقوبات الاقتصادية (من قبل روسيا)، اللهم إلا إذا صرخ أحدهم أولا في منازلة عض الأصابع، وحتى ذلك الحين لكل حادث حديث.