من يؤت الحكمة..
فاطمة الزهراء البيش
«الكتابة هي فعل أن تقول أنا. أن يفرض المرء نفسه على آخرين، أن يقول: استمعوا إلي، انظروا إلى الأمر بطريقتي، غيروا آراءكم». (جوان ديديون).
في غالب الأحيان نبدأ يومنا الجديد، كأيام سنوات مضت وأومضت معها بريق الدهشة والاستنكار، فكيف يكون الأمر طبيعيا ونحن نعيش وسط الأيام نفسها يوما واحدا، «الصباح الجديد» ذاته النهار الذي واجهنا فيه تاريخ الولادة وصدمة الوجود، الاتجاه نحو المألوف، بل المفاجئ المكون لجوهر البناء الاجتماعي، تارة مبرز المواقف، وطورا مثبتها، حتى لم تترك للبعض ذعرا تجاهها! مغريات الحياة كثيرة؛ وإن حصلت عليها بت ترشد وتهدي صدق الفكر عندك، أما من تفنن في الكلام وسبقك في الطرح فذاك مطرحه. حتما غربة اشتياق الذات صعبة، والأصعب منها نسيانك وحشرك مجددا في خوض معركة إثباتها، عمن من حقه إظهار ارتقاء هيبتك مجددا؟ عما سيجلب نظر الآخرين إليك، تنسى أنك تعيش فيها «أنت»، أم «الآخرون»؟
إنها «الحياة» ملكة الرهانات؛ الوحيدة التي نعرف معها لحظة التعلم دون طلب ولا تفاوض، ندفع ثمن المسير أحياء، وقليل منا لحظة عيش، انجرافات تستبقي التمعن في الأجسام المرهقة، عقل لا يقف عن التساؤل ولا يمل من الترنح هنا وهناك، طمعا في اقتطاف إجابة تشفي المر والغليل…؛ نأسى قلوبا وسط الأحداث المواجهين لها بما جهلنا، الحضور الغائب، الممارسات الاعتيادية، تنوع الحقائق وروقان الصواب، لا لشيء، فقط لأنه حكم عليك بالانخراط وسط «النحن»، دون موافقتك عليه؛ هل هي كينونة المسير، أم مسار متبع يبعث الاطمئنان، أم موثق لدوريات الزمان؟ متى يتحقق الانفراد إذن؟
عالم برمته يقف موقف «التنوع» في الحقائق والنجاح في انتقاء الأنسب، بعيدا عن إمكانية الفرص وزيادة احتمالية الوصول، خطوط عرضية بين هذا وذاك، يظهر الخارج لوحة ملطخة الألوان كل واحد فيها يبحث عما يناسبه؛ جمع أعطى نصرة للثقافة وقوامتها. أذكر ما قلته سلفا وأنا أستحضر «طبعا» خاصية المجتمع باعتباراته، يغريني التحدث عن الطريقة التي جعلنا الواقع فيها نعيش تشكيلة تجربات، نصطاد خلالها مكيد تأمين سلوكيات ومواقف اجتماعية؛ إن أخذناها بمنطق «البنية الاجتماعية» تكون مستقرة التعبيرات نسبيا، وإن اتجهنا صوب «المؤسسات الاجتماعية» نجدها تنسب لنفسها وظائف نمطية، مساهمة في استمرار العلاقات الاجتماعية بغرض تلبية احتياجات الناس وتطلعاتهم، خصوصا وأنها ترفع شعار المواكبة المجتمعية.
ومن ثم فالتفكير في طرق عيش الناس وفق معيشهم، يبقى مرهونا بتلك الاستمرارية، ما دام تعدد الأفعال مختلف عندهم، بالأحرى المقامرة فيها أمر صعب وشرطي إن لم نقل مستحيل بالمرة، مثقل كاهل من لا يملك قدرة التغيير، بدءا ممن يكون، وكيف تترجم أفكاره؟ الزيادة من المشكلات الاجتماعية رهينة الحالة، أو نوع السلوك المعتقد عند العديد منهم كونه ضارا لهم، فهل نضر الآخر في ما إن اختلفنا، وحسبنا أننا على صواب، أم يضرنا الآخر في عدم الموافقة على التغيير، وإن كانت التغييرات عديدة ولكل استثناء معقباته؟
الاختلاف عن الجماعة عموما ينظر إليه داخل دائرة غير المتقبل، مهجور الدار، مقطوع الصلة، مثال واحد يمثل حالة القارئ المستعجل: «ذات يوم، وأنا في طريقي إلى المقهى، أختم «محفلي اليومي» بمعشوقة سمراء، علها تخفف تعبي وتهبني روية الحال، حتى وجدت النادل متجها صوبي مباشرة، يخبرني بوجود صديق لي بالمكان ذاته، سرعان ما رددت قائلة: «رأيته سيدي»، وألقيت التحية من بعيد. لم أنته من كلامي بعد، حتى وجدته يقترح علي مكانا أجاوره فيه، أجبته بعد تفكير دام ثوان قليلة: «ليس بيننا موعد سيدي، وليس لدى أي منا الحق في إزعاج الآخر، إلا بعد اتصال أو تقديم طلب»، نظر إلي الرجل باستغراب: «أنا غير قلت زعما… »، وذهب».
وقعت حيرة المكان على عاتقي «الحدث وسط الكلام كان بسيطا»، إلا أنه جعلني أعاقب نفسي بضع ساعات، أعيد حساب ما قلت، من أين لي بهذه المبادئ، وكيف استنتجت أمر وجودها؟ لحظة واحدة لم تكن في الحسبان سمحت لي بتأليف سيناريوهات عديدة استحق حتفها «جائزة الأوسكار»، مخرجها وافق على أمر أن أغلب المسلمات، في الواقع أتت نتيجة نضالات طويلة، فهل حققتها، أم أتوهم تحقيقها؟
إرضاء الوجود لم يكن شيئا إذن غير «المشاركة»، قطعا مناسبة مكملة لما شاركنا فيه داخل اللوحة نفسها، تخيل معي أن «المعتقدات والأعراف» لعبت دور المأمون على أسرته، جمعت بيننا جميعا، وهبتنا «وجوديتنا»، أهدتنا وسائل لإتقان العمل (ريشة، طلاء…)، بأسا، سعادة. انخرطنا في زينتها دون التقاء أو مشاورة، كم لافت النظر صوبها، كلما ابتعدت اقتربت، تربكنا عن الصواب، تقربنا من الخطأ، ترينا الخير، تواسينا، تقبل السوء، توضح معاني المعارك وكيف يكون السلام…، بعيدة كل البعد عما يحمله عقل الفرد من تصورات عن الواقع، هنا تكون الحقيقة بأعين الجميع، هنا يكون «النحن»، وهنالك أكون «أنا»، ما زلت أراقب تجاربي من بعيد حتى أدركها.
نافذة:
في غالب الأحيان نبدأ يومنا الجديد كأيام سنوات مضت وأومضت معها بريق الدهشة والاستنكار فكيف يكون الأمر طبيعيا ونحن نعيش وسط الأيام نفسها يوما واحدا