من هو سعيد جقمق؟
عندما أستخدم اسم هذا الرجل في مقالاتي يظن البعض أنني أمزح، وما أنا بمازح؟
وكانت الدكتورة (نسرين) حين أذكر لها سراة عبيدة وخميس مشيط وسبت العلايا تظن أنني أتلاعب بالألفاظ وهي أسماء مدن عامرة.
وأرسل لي الدكتور (أسامة ندى) من مونتريال، وهو طبيب عينية، يسألني أن أدله على مسجد يصلي فيه الجمعة؟ قلت له: مونتريال هي لكندا، أما صلاة الجمعة هناك، فهي من الشرانق الزاحفة للغرب تحمل ثقافتها الميتة.
وفي جامعة (كونكورديا) في مونتريال حضرت خطبة الجمعة؛ فقام شاب فحكى (حكايات جحا الكبرى) ما يصلح للتندر، عن عظمة المسلمين مثل شحاذ يحكي قصة جده الملياردير، فلا تسد له جوعا وعريا.
وأنا أعتبر أن مؤشر النهضة للمسلمين هي طبيعة خطبة الجمعة، وفي كندا مازالوا يعيشون ثقافة المماليك الشراكسة أيام سعيد جقمق.
وخطبة الجمعة التي حضرتها في مساجد عدة هناك، هي من ثلاثة أنواع غالبا: فإما كانت من وعاظ السلاطين، مع عدم وجود سلاطين ومخابرات، أو الدعاة المتشددون الذي يدعون بالويل والثبور على تسعة أعشار الجنس البشري، وهم في أحضان من يدعون عليهم، وإما كانت خطبة ميتة من استراحة فقهاء العصر المملوكي أيام سعيد جقمق.
وهنا سألني أحدهم يلاحقني ولا يصدق من هو سعيد جقمق؟
وكلمة (جقمق) تركية وتعني القداحة وتلفظ الجيم بثلاث نقط تحتها، والرجل من المماليك الشراكسة الذين حكموا مصر، وكان رقم 35 منهم وحكم بين عامي 1438 و1452 م، وكان من أعقلهم إذ استقال، فمن أصل 47 حاكما رسا مصير الكثير منهم بين الشنق والخنق والاغتيال والخازوق.
فأولهم (برقوق) خلع ولم يذق طعم فاكهة البرقوق. وثانيهم كان (الملك الصالح)، ولم تكن نهايته صالحة؛ فقد خلع مرتين ثم سجن حتى عفنت عظامه في البئر السلطاني، ثم ظهر برقوق بعد خلعه ليربح التاج في مؤامرة فأكل البرقوق والخوخ. وأما ثالثهم (أبو السعادات) فلم يكن سعيدا فقد اختفى؟ وأما رابعهم (أبو العز) فلم ينتهي بعز، بل خلع المسكين وحبس مثل فأر شقي؟ وأما أبو السعادات الذي اختفى فقد ظهر ليلاقي حتفه بحد السيف، فتم اغتياله مثل قطة دعستها سيارة جيمس.
وهكذا تتوالى السلسلة الجهنمية من حكام مصر المماليك ليخلع 13 من أصل 47 ويقتل آخرون، ويخنق (الأشرف أبو النصر) بدون نصر، بعد خلع وسجن بأيد غليظة على يد منافس شرس! ما يذكر بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر من المماليك الناصرية.
وتنتهي السلسلة مع (طومان باي) الذي شنق بحبل مجدول بعناية عثمانية. ليبدأ العصر العثماني، ويحضرني منهم (سليمان القانوني) وقصته مع صهره وابنه، فأما ابنه (مصطفى) فقد خنق بطريقة عثمانية أصيلة، تواتروها من التتار، بخنقه واقفا بثلاث خيطان حريرية تشد رقبته إلى ثلاث اتجاهات من الدائرة، كما روى ذلك (هارولد لامب) في كتابه عن سليمان القانوني الأعظم.
وأما صهره الصدر الأعظم فقد رجاه حين طلب منه تولي المنصب، أن يخرجه من الكرسي بشرفه، فكان أن قتله سليمان القانوني بيده في مجلسه، كما فعل (المعتمد بن عماد) مع وزيره المقرب من قبل، وبقي دمه مسفوحا أربعة أيام على الوسائد السلطانية، دليلا على الوفاء وكلمة الشرف.
ولذا كان سعيد جقمق رقم 35 من السلسة الجهنمية، من أعقلهم، لأنه استقال بعد أن يتحول كرسي الحكم إلى كرسي إعدام. ونظير سلسلة المماليك الشراكسة، المماليك البرجية، الذين سبقوهم، وحكم منهم 21 نفرا، فخلع منهم 11 واحدا، وضاع البقية بين مشنوق ومخنوق أو راكب على الخازوق.
وقبل السلسلتين السلطانيتين وفي المقدمة، يأتي فوج مقتحم من (المماليك البحرية) إلى المذبحة، في ستة بدؤوا بـ (عز الدين أيبك) وختموا بالملك (العادل) بدون عدل، فقتل اثنان؛ وخلع ثلاثة، ومن نجا من المذبحة كان الجني (بيبرس) الذي تلقب بالملك (الظاهر) وكان الظاهر والباطن وسيد المتآمرين، الذي فتك بمعلمه (قطز) بعد انتصاره في معركة جالوت ضد المغول؛ فكافأه الرفاق بالمؤامرة عليه، وتقدم ليقبل يده؛ فسحبه من الحصان، وتعاورت عليه الخناجر طعنا بالسوق والأعناق، ثم حشوه بكيس خيش إلى باب زويلة في القاهرة، ولم يستطع أحد أن يفتح فمه أمام العصابة.
ولذا فإن العصابات الثورية في العالم العربي، لها أصول غارقة بعيدة في الثقافة العربية من التآمر والغم والقتل والدم.
وليس التاريخ العباسي مشرفا كثيرا، فقد افتتح العهد بـ (السفاح)، الذي سفح دم الجميع، ولو كان طوله خمسة أشبار، إذا رابهم أمره، كما جاء في وصية سيد الانقلابيين (أبي مسلم الخراساني).
وانتهى بالمسفوح دمه (المستعصم بالله) بدون عصمة، الذي ذبح بيد المغول مثل خروف سمين.
وبينهما قتل (الأمين) بدون أمانة، والمتوكل على الله، قتلوه متوكلين على الله، والمستعين بالله، قتلوه مستعينين بالله.
وآخرون من شكله أزواج، المعتز بالله، والمهتدي بالله، والمقتدر بالله … في أسماء منسوبة إلى الله تغطية للفضيحة السلطانية.
وأما المسكين (المستكفي بالله) فقد سملت عيناه، ورمي في السجن، مثل قطة شاردة، حتى فاضت روحه إلى باريها وأما (الراضي بالله) فقد حكم يوما واحدا؟
وكان أعقلهم (المطيع لله) فقد أطاعه؛ فخلع نفسه، ورجع إلى نفسه، وعقل بعد أن رأى كرسي الحكم قد تحول إلى كرسي الإعدام بالسيف والنطع!
وبعد المماليك جاء العثمانيون الذين كانوا يفتتحون توليهم العرش بمذبحة عارمة من خنق الأخوة، وبآية من القرآن، أن الفتنة أشد من القتل، وبفتوى من شيخ الديار العثمانية.
هكذا قتل (مراد خان الخامس) إخوته الخمسة مع توليه العرش. كما جاء في كتاب (تاريخ الدولة العلية)، وهكذا أمر (محمد خان الثالث) بخنق أخوته الـ 19 ضربة واحدة، ثم أمر بدفنهم في حفرة جماعية قبل دفن أبيه؟؟
وهكذا ننتهي من سرد هذا التاريخ المزعج، ونعرف أن (سعيد جقمق) كان من أعقل الحكام حين حكم، ثم عرف الطبخة، واستقال وأقال وقال إني مهاجر إلى ربي.