شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

من مذكرات بوستة ..أسرار عن أكس ليبان ورحيل علال الفاسي

أوراق مثيرة عن محادثات «إكس ليبان»
كان امحمد بوستة شابا مفعما بالحماس، خصوصا أنه يعتبر من بين أصغر أعضاء الوفد المغربي، عن حزب الاستقلال، الذين توجهوا إلى منطقة «إكس ليبان» في التراب الفرنسي، عبر السيارة ليصل إلى سويسرا ويسلم أوراق تقارير المباحثات إلى أحمد بلافريج الذي كان وقتها مقيما في سويسرا حيث كان يطلع عليها، وينتظره امحمد بوستة إلى أن يفرغ من مطالعة التقارير ويكتب رأيه أو موقفه مساهما في صياغة مواقف الحزب خلال الجولات اللاحقة من المحادثات.

يقول: «كان أحمد بلا فريج يقيم وقتئذ بجنيف بسويسرا، ومنها كان يتابع المباحثات بكل تفاصيلها ويشارك بطريقة غير مباشرة في صياغة مواقف الحزب. وكنت مكلفا بربط الاتصال بينه وأعضاء الوفد المفاوض. ولهذه الغاية استأجر لي غرفة بجواره في فندق «دي رون» ( Du Rhone ) بجنيف.

وقد كنت خلال هذه المباحثات أتسلم يوميا من أعضاء الوفد تقريرا يتضمن تفاصيل الاجتماع وملحوظاتهم حوله، ثم أذهب على متن سيارة صغيرة من «إيكس ليبان» الموجودة في التراب الفرنسي إلى جنيف بسويسرا، وتستغرق الرحلة بين المدينتين حوالي ساعة ونصف تقريبا، إذ أقوم بتسليم التقرير لأحمد بلافريج للاطلاع عليه وأقضي الليل هناك، وفي صباح الغد وبعد تناول الإفطار يسلمني تقريرا يتضمن ملحوظاته وآراءه وتعليماته. وكان أحيانا يضيف إليها آراء وملاحظات أعضاء الحزب بأمريكا ومواقف علال الفاسي بالقاهرة، لأنه كان على اتصال دائم بهم. وعند العودة إلى «إيكس ليبان» أسلم التقرير لأعضاء الوفد المفاوض. وهكذا كان الحال طيلة مدة انعقاد هذه الاجتماعات وكانت هذه العملية تتم يوميا بصفة مضبوطة ومحكمة».

كانت هذه المحادثات التي تمت في الفترة ما بين 22 و27 غشت 1955، بمثابة الأمل الذي كان يحدو الوطنيين لكي تطوى أزمة العرش، خصوصا أن العداوة التاريخية بين جناح الباشا التهامي الكلاوي وجناح الحركة الوطنية لم يعد يحتمل أن يستمر. وما زاد من تأكيد إمكانية حدوث انفراج، هو انتقال العائلة الملكية من المنفى البعيد في مدغشقر إلى باريس. وهنا يحكي امحمد بوستة أنه ذهب للقاء الملك الراحل محمد الخامس هناك في إقامة «بوفالون» ولم يكن يتوقع أن يكون شاهدا في ذلك المساء على كل كواليس صياغة الخطاب الشهير الذي ألقاه محمد الخامس من فرنسا والذي اعتُبر وقتها تأكيدا على قرب نهاية محنة أزمة العرش وحصول المغرب على الاستقلال.

أمسية تاريخية.. محمد الخامس يلقي بباريس خطاب العودة
عندما تابع امحمد بوستة محادثات «إكس ليبان» عن قرب وشارك فيها بصفته عضوا في الوفد المغربي، فقد مكنه هذا الحضور من متابعة كواليس تداعيات ما بعد المحادثات. إذ أن طفولته في مراكش، جعلته يعرف جيدا من يكون الباشا الكلاوي.

لذلك كان بوستة ربما أكثر الحاضرين سعادة وهو يسمع من هناك أن الكلاوي ألقى خطابا بث على أمواج الراديو في المغرب، يعلن فيه ضمنيا الاستسلام. ينقل بوستة هذه الأجواء قائلا: «امتطينا السيارة في اتجاه لوفوكيت، قال لي عبد الرحيم بوعبيد إن ما أقدم عليه الكلاوي، سيعفينا من مناقشة حيثيات عودة محمد الخامس إلى فرنسا مع إميل روش، ولكننا سنطالب بالرجوع الرسمي لملك المغرب إلى عرشه. ذهبنا إلى اللقاء واجتمعنا بإميل روش، وجدناه مصابا بالصعقة النفسية التي أصيب بها بونيفاص وجماعته بالمغرب، بسبب تصريح الباشا التهامي الكلاوي، الذي كان وقعه شديدا أيضا على الفرنسيين المعادين للملك وللحركة الوطنية. بعد ذلك توالت الأحداث بوتيرة سريعة إلى أن تم الإعلان عن وصول الملك محمد الخامس رفقة عائلته إلى مطار نيس. وكنت شخصيا ضمن الوفد الذي كان في استقباله يوم واحد وثلاثين أكتوبر 1955.

كانت لي بالملك محمد الخامس علاقة قرابة، إذ أن زوجتي، التي هي في نفس الوقت ابنة خالي، كانت تدرس مع الأميرة للا عائشة كريمة محمد الخامس، واستمرت علاقتها وطيدة حتى بعد الدراسة. وخلال مقامي بباريس كانت الأميرة للا أمينة أخت الملك قد جاءت لفرنسا مع زوجها مولاي الحسن بن ادريس من أجل العلاج. وكانت تقيم بشارع كراند أرمي رفقة أخيها المدعو بابا حسن، وهو الأمير مولاي الحسن».

أما بخصوص كواليس الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل محمد الخامس، والذي اعتبر أهم لحظة تاريخية في مسار الاستقلال، فقد روى امحمد بوستة تفاصيل تلك الليلة:

«وهكذا ذهبت رفقة زوجتي معهم لاستقبال العائلة الملكية. وذهبنا برفقتهم إلى مقر إقامتهم في بوفالون حيث قضينا معهم أمسية ذلك اليوم، إلى أن جاء موفد من طرف الحكومة الفرنسية يطلب من محمد الخامس الالتحاق بسان جيرمان أونلي بضواحي باريس. وهناك ألقى جلالته خطاب سادس نونبر أو ما عرف بتصريح لاسيل سان كلو الموقع من طرف محمد الخامس وأنطوان بيناي وزير الخارجية الفرنسي. وساهم عبد الرحيم بوعبيد في صياغة هذا التصريح بمعية الأمير مولاي الحسن، الذي لعب دورا كبيرا في بلورته وتحريره، إذ تم فيه الإقرار بشرعية عودة محمد الخامس إلى عرشه. في التصريح المشترك بين الملك محمد الخامس والوزير بيناي يؤكد الطرف الفرنسي أن المغرب مقبل على تطوير علاقاته مع فرنسا على أساس إلغاء معاهدة الحماية. وهو نفس الأمر الذي عبر عنه محمد الخامس مباشرة بعد عودته إلى المغرب يوم سادس عشر نونبر 1955 إذ أكد هذا حين قال: «لقد ولى عهد الحجر والحماية وانبثق عهد الحرية والاستقلال».

هكذا ترشح بوستة للمجلس البلدي بمراكش سنة 1960
كان امحمد بوستة دائما مرتبطا بمدينة مراكش. وهكذا ترشح سنة 1960 لرئاسة مجلسها البلدي وفق النظام القديم قبل ميلاد دستور سنة 1962 الذي أعلن من خلاله بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني.

وخلال فترة ترشحه لتسيير المجلس البلدي لمراكش، كان امحمد بوستة يعيش أيضا كواليس تبعات مغادرة القيادات الاستقلالية التي أسست حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. يحكي امحمد بوستة عن تلك الفترة قائلا:

«خلال سنة 1960 دخلنا مرحلة أخرى، إذ تمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم يوم 21 ماي، وفي الواحد والثلاثين منه نظمت أول انتخابات بلدية بالمغرب المستقل، وقد تقدمت بملف ترشيحي لهذه الانتخابات بمدينة مراكش. كانت انتخابات مثالية من حيث أجواء النزاهة والمصداقية التي طبعتها، ولم تتدخل الإدارة فيها بصفة مطلقة. كما لم يشبها أي تزوير. خسر مرشحو حزب الاستقلال في مدن كثيرة وكبيرة، مثل الدار البيضاء وآسفي والرباط. وكان الصراع في هذه الانتخابات محتدما ومقتصرا على كتلتين سياسيتين هما حزب الاستقلال والحركة الجديدة التي انفصلت عنه، وهي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي تحالف مع الاتحاد المغربي للشغل(UMT) ، الذي كان منظما بشكل محكم وقوي.

ترشحت بمدينة مراكش باسم حزب الاستقلال لعضوية المجلس البلدي بمعية إخوان آخرين منهم حاد الأزرق وفاخر أبو الهدى، وواعزي وسهام والفقيه الدفلي وامحمد الخليفة، الذي كان في ريعان شبابه في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره، وكان هو المشرف على تنظيم الدعاية لمرشحي الحزب، خاصة بالنسبة إلي. كان الصراع، كما أسلفت، قويا ومحتدما بين الأطراف السياسية المتنافسة على المقاعد التسعة والثلاثين، وهو عدد مقاعد المجلس البلدي. وأجدد التأكيد مرة أخرى أن العمليات الانتخابية من بدايتها إلى آخرها مرت في أجواء ديمقراطية شفافة ونزيهة بدون أدنى تدخل من الجهات الإدارية، وهذه إشارة لا بد منها، لأن المغرب لم يشهد منذ ذلك التاريخ أية انتخابات نزيهة أو ذات مصداقية إلى حدود بداية هذا القرن إذ تغيرت الأمور. فاز حزب الاستقلال في هذا الاستحقاق بمراكش بتسعة عشر مقعدا وحصل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على عشرين مقعدا.

وأثناء الإعداد لاختيار رئيس المجلس وأعضاء المكتب، ومن حكمة بعض الإخوان في الحزب ونباهتهم السياسية، ومنهم بالخصوص حاد الأزرق ومولاي أحمد المنجرة وفاخر أبو الهدى، أنهم قاموا بالاتصال بأحد التجار بحي سيدي يوسف بن علي ليلة انتخاب المكتب، وكان رجلا متدينا وذا أخلاق فاضلة، فالتمسوا منه التصويت على امحمد بوستة رئيسا للمجلس».

آخر وصايا علال الفاسي لبوستة
من بين أهم الأسرار والكواليس التي تطرق إليها امحمد بوستة في شهادته التاريخية، اللحظات الأخيرة له مع الزعيم الاستقلالي الراحل علال الفاسي الذي توفي في بوخاريست برومانيا سنة 1974.

وبعض التفاصيل التي أثارها بوستة والتي تدخل في عمق العلاقة الإنسانية التي جمعته بعلال الفاسي، تُروى لأول مرة في هذه المذكرات.

جاء في شهادة امحمد بوستة ما يلي: «ذهبنا إلى بوخارست برومانيا، كمحطة أولى في هذه الجولة الأوربية. وكان في استقبالنا عبد الحفيظ القادري، الذي انضم إلينا في هذه الزيارة. كما أن ترتيبات ضيافتنا كانت على ما يرام، إذ وجدنا إقامة معدة لإيوائنا، قضينا بها اليوم الأول لوصولنا من أجل الراحة، وفي مساء اليوم الثاني كان علينا أن نذهب إلى القصر الرئاسي لمقابلة الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو. قبل هذا الموعد، الذي كان محددا في الساعة الخامسة، جاء لمقر إقامتنا وفد فلسطيني يرأسه هاني الحسن لزيارة علال الفاسي. وخلال هذا اللقاء طلبوا منه أن يتوسط لهم لدى الرئيس الروماني من أجل السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح أول مكتب لها بأوروبا على التراب الروماني، وافق علال الفاسي دون تردد، ووعد بالقيام بكل ما في وسعه لتحقيق هذا الطلب.

انتهت زيارة الوفد الفلسطيني وبقينا ننتظر، أنا وعبد الحفيظ القادري، رفقة علال الفاسي، وصول السيارة التي ستقلنا إلى قصر الرئاسة. في هذه الأثناء كان علال الفاسي يرنو إلى السماء متأملا، وفجأة التفت نحونا قائلا ما معناه، وبشيء من الإلحاح والتأكيد، وكان كلامه يبدو كوصية «اسمعوا، أنا لن أسايركم بعد اليوم في ما أنتم عليه، وسوف أجعل حدا لهذه القطيعة مع القصر ومع الملك، وإن شاء الله بعد عودتنا إلى المغرب سأتصل بالملك وسأعمل ما في وسعي لتعود دماء المحبة والوفاء إلى مجاريها.. فلقد تبين جليا أنه إن ابتعدنا عنه، بسبب مواقفنا مما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة من مشاكل، فقد تكالبت عليه بطانة السوء، وزينوا له اتخاذ قرارات كانت كارثية على البلاد، خاصة ما يتعلق بالنزاع على الحدود مع الجزائر. وفي نهاية المطاف بلغت بهم الخيانة والغدر، من ثورات كانت ملكية أو جمهورية، ليست في الحقيقة ثورات وإنما هي عمليات تخريب وإخماد للثورة، لأن الثورة الحقيقية هي الحرية، كيف ما كان النظام الذي يحتضنها».

كانت تلك آخر وصايا علال الفاسي الذي كان يودع أصدقاءه ورفاقه في الحزب دون أن يتوقع أحد أن الزعيم الاستقلالي كان يعيش اللحظات الأخيرة من حياته.

قصة وفاة علال الفاسي برومانيا وهكذا نُقل جثمانه
جاء في حديث امحمد بوستة: «تم إخبارنا بأن السيارة التي ستُقلنا إلى قصر الرئاسة لمقابلة الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو وصلت. بعد لحظات وصلنا إلى القصر الرئاسي. هناك تم اصطحابنا إلى قاعة فسيحة في أحد طوابق القصر بها حوالي اثنتي عشر نافذة. استقبلنا الرئيس وإلى جانبه نائبه ووزير الخارجية، ثم دعانا للجلوس في مكان مخصص بتلك القاعة الفخمة، وطلب من علال الفاسي الجلوس إلى جانبه، وجلسنا، عبد الحفيظ القادري وأنا على مقربة منهما. بعد عبارات الترحاب والمجاملة سأل تشاوشيسكو علال الفاسي عن الملك الحسن الثاني وعن أحوال البلاد، فأجابه بأن كل شيء بخير والحمد لله. وبادره علال الفاسي قائلا: إن وفدا فلسطينيا يرأسه هاني الحسن طلب مني أن ألتمس من فخامتكم الترخيص لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح أول مكتب لها بأوربا على أرض رومانيا. في تلك اللحظة التفت تشاوشيسكو إلى نائبه ووزير خارجيته وأعطى أمره بأن يتم فتح هذا المكتب في أقرب وقت ممكن.

ثم استطرد علال الفاسي في حديثه ملتمسا من الرئيس الروماني الوقوف إلى جانب المملكة المغربية ومساندتها، لأنها مقبلة على الدخول في مفاوضات جدية مع إسبانيا من أجل استرجاع الأقاليم الصحراوية المغربية التي مازالت تحت السيطرة الإسبانية.

في خضم حديثه، وبحركة مفاجئة، هب علال الفاسي وهو يهتف واقفا «هواء.. هواء.. إني أختنق»، وذهب مسرعا نحو إحدى النوافذ ليستنشق الهواء. كان الكل مندهشا مستغربا مما انتابه، خاصة أن القاعة كانت كبيرة وهواؤها منعشا. أسرع إليه عبد الحفيط القادري واصطحبه إلى خارج القاعة، وقبل أن يغادرها التفت إليّ قائلا أتم… أتمم ما كنت بصدد الحديث عنه مع فخامة الرئيس، فإنك على دراية بالموضوع وتعرف الملف. في الواقع لم يبق لنا في خضم هذا الحادث ما نتم الحديث عنه، بل إن الكل توجه إلى خارج القاعة للاطمئنان على حالة علال الفاسي. وعندما خرجنا وجدناه متكئا على كتف عبد الحفيظ القادري رافعا سبابة يمناه إلى السماء في حالة تشهد، هنالك فارق الحياة. هرع إليه في تلك اللحظة اثنان من الأطباء، فتح أحدها أزرار قميصه وحاول القيام بعملية إنعاش استعجالية، لكن دون جدوى. ثم أمر الرئيس بحمله على وجه السرعة إلى أحد المستشفيات العسكرية.

وصلنا المستشفى في بضع دقائق وتمت من جديد محاولة إنعاشه بمجموعة من المعدات الطبية، لكن دون جدوى وبعد حوالي عشر دقائق خرج إلينا أحد الأطباء ليخبرنا باللغة الفرنسية قائلا: (C’etait Foudroyant, Monsieur Allal Est Mort).

كان هذا في يوم 14 ماي 1974. وبعد يوم ونصف على الوفاة، وصل نعش علال الفاسي إلى المغرب لتبدأ طقوس الجنازة. حيث كانت جنازة علال الفاسي حدثا وطنيا، خصوصا أن الملك الراحل الحسن الثاني حضرها شخصيا. إذ أن امحمد بوستة أكد في هذه المذكرات أن الملك الراحل جاء إلى منزل العائلة وألقى نظرة أخيرة على نعش علال الفاسي وألقى تأبينا أثّر في الحاضرين، وكانت تلك من المرات النادرة التي حضر فيها الملك الراحل إلى جنازة أحد رجالات الدولة قبل مراسيم الدفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى