شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

من كان يونس بحري

 

بقلم: خالص جلبي

 

 المذيعون الأبواق كثيرون، ولا أحفظ أسماءهم مثل البوق من قناة «الجزيرة»، ومثل السعيد المصري والصحاف العراقي والمعلم السوري، ولكن أبرزهم هو يونس بحري الذي لا يعرفه إلا القليلون ومن أدركه من الجيل القديم نوادر، فمن كان الرجل؟

يونس بحري يذكر بالسندباد البحري، فكلاهما عراقي؛ بفارق أن الأول سجل لأيام الأفراح، والثاني سجل ليالي الأتراح والأحزان. الأول جاء في حقبة ذهبية، والثاني ولد في ظروف جهنمية. الأول سجل رحلات الاكتشاف، والثاني خط بقلمه في (مذكراته) أيام الانقلابات، وسفح دم العائلة المالكة جميعا، على يد المجرم (عبد الستار السبع)، بتعليمات المجرم عبد السلام عارف… فدفعت العراق ثمن ذلك الدم مصرع الملايين وما زالت..

يقول يونس بحري في مذكراته، إن عبد السلام عارف كان في غاية الاضطراب في دار الإذاعة، في يوم 14 يوليوز 1958م؛ يخفف عن نفسه بضرب رأس زميله المعتقل، والأعلى رتبة منه، المقدم ياسين، بعصا غليظة، بين الحين والآخر، وهو يقول إن فشل الانقلاب؛ كان أول شيء أفعله أن أضحي بك، كما ضحينا من قبل بالجعد بن درهم.

فيكون دمك عيدا لنا…وحين دخل عبد الستار السبع وهو حامل (الماشين جن) ملطخا بالدم، فهرع إليه صاحبه (غير العارف) وقبّله، وصرخ به: ما الخبر؟ فعانقه المجرم، وقال باللهجة العراقية: (كتلناهم)؛ فقام (سيد الحرب) وتوجه بالإذاعة إلى الشعب العراقي فكذب عليهم، وصرخ: إن قصر الرحاب يقاوم، والانقلاب ماض في طريقه، ونطالبكم أيها الشعب بالهجوم على القصر، فتحركت جموع هائلة من الدهماء، وهجمت على القصر فأعملت النهب والسلب.

أما الوصي على العرش «عبد الإله» فقد تمتعت به الجموع العراقية على طريقتها، كما تفعل منذ أيام نبوخذ نصر والفتح الآشوري، مخلدا حتى اليوم في صفائح الصخر، فسحلت جثة عبد الإله.. كان أول تعرفي على يونس بحري عندما كنت في سجون البعث، وكان معنا في زنزانة صغيرة بحجم نصف غرفة صغيرة عشرة أشخاص؛ فلم أستطع مد ساقي طيلة 250 يوما حسوما. وفي الغرفة كان معنا رجل سياسي مخضرم واسع الثقافة والحيلة اسمه «أبو راشد» ولا أحفظ غير هذا منه، فروى لي قصة الرجل، ثم سمعت متفرقات عنه، حتى اجتمعت بكتاب مذكراته الأصلية، فالتهمته في ليالي قليلة، وكانت صدمتي من الكتاب كبيرة، والجملة التي كررتها لما فرغت من الكتاب: لا جديد في العراق؛ العنف هو .. هو .. والدم هو.. هو..

وإذا كان «أندري سيجريد» كتب عن (سيكولوجية الشعوب)، يصف الألمان بالنظام والانضباط، والفرنسيين بالخيال، والأمريكيين بالفعالية، والروس بالتصوف والزهد، والبريطانيين بالعناد، فيجب أن يضيف في السجل العراقيين بالدموية.

قالت لي سيدة عن عراقية، إنها سمعتها تقول لرجل يحرض زوجها على الزواج بامرأة ثانية، هل تعلم مصير الاثنين؟ قتلناك أولا، ثم قتلت الرجل المتزوج.

وهكذا فالقتل سيد الحلول. وإعدام برزان التكريتي بنزع رأسه في المشنقة حدث غريب، ولكنه في العراق مستنقع الدم عادي.. وصدام ينبت من نفس ثقافة الدم والإعدام المتبادل…  فلم يتغير شيء مع المالكي.

ومما روى لي أبو راشد عن العراق ونوري السعيد، أنه صاح يوما بهم فقال: هل تعلمون (ما الجشمة)؟ وتلفظ بالجيم بنقاط ثلاث أقرب للشين.

وهي باللهجة العراقية دورة المياه، وقد يكون أصلها تركي (مكان الماء)، فأنا تلك الجشمة، فإذا قتلت انفتحت كل الروائح. وهو ما حدث بعد الانقلاب المشؤوم، فجاء عبد الكريم قاسم ليقوم صدام بمحاولة اغتياله، ليقتل قاسم بدوره، لتجري الدماء مدرارا، لتقتل القيادة العراقية صبرا، ليشنق صدام فيتدلى.. وأبو راشد الذي فارقناه، وبقي في الزنزانة رقم ثلاثة في سجن الحلبوني بدمشق؛ ربما خمس سنوات، ولا أعرف أين أصبح حيا أم ميتا، مع العلم أن الوطن العربي يضم مقبرة كبيرة، كِفَاتا أحياء وأمواتا .. ويل يومئذ للمكذبين…

عاش يونس بحري في زواج بدون زواج، وعاش حياة بوهيمية؛ فتزوج أربعين مرة، وأنجب خمسين طفلا، ولم يرب واحدا، ومن أنجبه من السيدة العراقية كتب تقريرا سريا للمخابرات في حقه؛ فلم ينقذه سوى معرفة ضباط المباحث أمره. وكانت حياته الجنسية خصبة، والعقلية أخصب، فكتب أكثر من عشرين كتابا، وزار أربعين دولة، ونطق 16 لغة وعشر لهجات، وحكم بالإعدام في إفريقيا، ونجاه عقله وحسن تصرفه. أما قوته العضلية فكانت آية، ففي يوم لحق مسابقات بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا، وهو حامل علم العراق، فقبل في اللحظات الأخيرة، وفاز فكان الأول الذي خرج من موج البحر بأفضل من سمك نهر دجلة.. ومن سماه بحري هم النازيون، وهو من أسس برنامج «حيا العرب» من إذاعة برلين في ظروف الحرب العالمية الثانية، مفتتحا الإذاعة بآيات من الذكر الحكيم، وهو تقليد التقطته إذاعة «بي بي سي» البريطانية وما زال حتى اليوم.

 

نافذة:

يونس بحري يذكر بالسندباد البحري فكلاهما عراقي بفارق أن الأول سجل لأيام الأفراح والثاني سجل ليالي الأتراح والأحزان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى