من عرف الحب شهده في كل شيء
ما أجل كلام الله العظيم، ومنه:«يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ». (المائدة:45)
ولا يتعلق الهوى إلا بحب سبيل الله تعالى دون سائر السبل.. لا شريك له. فإذا تخلص له وصفا من كدورات الشركاء من السبل كحب الدنيا – أو بلغة القوم الأغيار – سمي حبا لصفائه وخلوصه.. وهنا مصدر تسمية الزهاد بالـصوفية أي من صفائه وخلوصه لمولاه.. وكذلك الحب في المخلوقين، إذا تعلق بجناب الحق سبحانه وتخلص له من علاقته بالأنداد.. سمي ذلك حبا، بل قال فيه الله العظيم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ». ﴿البقرة: ١٦٥﴾.
وأما العشق، كما يعرفه الشيخ محيي الدين بن عربي، فهو إفراط المحبة، أو المحبة المفرطة.. وأما الود فهو ثبات الحب أو العشق أو الهوى، أي حالة كانت من أحوال هذه الصفة ـ فإذا ثبت صاحبها الموصوف بها عليها، ولم يغيره شيء عنها، ولا أزاله عن حكمها.. سمي لذلك ودا، وهو قوله تعالى:
«إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمن وُدًّا». ﴿مريم: ٩٦﴾
أي ثباتا في المحبة عند الله.. وللحب أحوال كثيرة جدا.. مثل: الشوق والغرام والهيام والكلف والبكاء والحزن والكبد والذبول والانكسار وأمثال ذلك.. [فتوحات 2، ص 335-337 ].
وإن أردنا تعريف الحب فلن نجد لذلك سبيلا، ولن يزيد المفهوم إلا خفاء، إذ التعاريف للعلوم. أما الحب، مثلما يقول عبد القادر عيسى، فحالة ذوقية تفيض على قلوب المحبين، ما لها سوى الذوق إفشاء. وكل ما قيل في المحبة ما هو إلا بيان أثرها، وتعبير عن ثمارها، وتوضيح لأسبابها.
والمحبة لا يعبر عنها حقيقة إلا من ذاقها.. بل وحتى في التعبير عنها خطورة، ومغامرة البوح غير محسوبة النتائج في مجتمع متشدد، سياسوي، يرفض كل شيء جميل.. كحال الحلاج، وعين القضاة الهمذاني الملقب بـ«الصوفي المنسي»، ومحن العديد من الصوفية ..
قال أبو بكر الكتاني، رحمه الله تعالى:
«جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفاء شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبته، فإن تكلم فبـالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين». [مدارج السالكين، ج 3.ص11]
سئل الجنيد عن المحبة فكان جوابه فيضان الدموع من عينيه، وخفقان القلب هياما وشوقا، ثم عبر عما يجده من آثار المحبة.. فهل يفهم كل ناكر للحب الإلهي معنى المحبة..!
إن من أنكر الحب الإلهي كمن يريد أن ينكر وجوده الإنساني.. فنحن لم نوجد جميعا إلا لرحمة الحب.. لكن لكل نفس جانب مظلم.. فمتى تفهم وتدرك أن الإنسان ما خلق إلا ليعبدُ خالقه وأجل عبادة أن تعبده محبة في ذاته العلية. لا خوفاً ولا طمعاً. يقول ابن عطاء الله السكندري: «من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئاً». والمحبة كما شرحها أحمد بن عجيبة في معرض شرحه للحكمة السابقة، هي: «أخذ الحق قلب من أحب من عباده فلا يكون له عن نفسه أخبار ولا مع غير محبوبه قرار». وقيل غير ذلك، فمن عرف الحق شهده في كل شيء ولم ير معه شيئاً لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت، ومن فنى به وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء ولم يثبت مع الله شيئاً.
قال قائل:
«قالت وقد سألت عن حال عاشقها = بالله صفه ولا تنقص ولا تزد.
فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ = وقلت قف عن ورود الماء ولم يرد».
والكلام في المحبة طويل.