من رغد العيش إلى ضيقه نجوم رمت بهم الأقدار وحولتهم إلى نزلاء بدور المسنين
ذاقوا لذة النجومية وعاشوا رغد العيش قبل أن تنقلب حياتهم رأسا على عقب، وانتهي بهم المطاف في دور المسنين، يعيشون وحدتهم بعيدا عن الاهتمام والشهرة ليسرقهم الموت هناك في غفلة من الجميع. في وحدتهم وقفوا على زيف الشهرة والمال واكتشفوا أن كل شيء إلى زوال، وتمنوا في عزلتهم لو أن القدر يمنحهم نصف فرصة لاستدراك ما فات.
هناك قناعة عند كل من كان له عبور في دور رعاية المسنين، وهي أن حياة النجومية ليست آمنة ولا مضمونة، فالمشاهير في بلدي ينامون على حال ويستيقظون على حال آخر، وحين يفقدون البوصلة تنقطع صلتهم بالكرامة ويصبحون مجرد اسم في سجلات دور الرعاية، لا يجدون من يزورهم أو يصغي لقصص النزول من أعلى سلالم المجد إلى قعر الضياع.
يزداد الوضع سوءا حين يتحالف المرض مع الخصاص المالي، فيتدهور الحال ويصبح النجم الذي انتهى به المطاف في عهدة دار للرعاية، مادة خصبة لإعلام الإثارة في «السوشيال ميديا».
في مثل هذه المواقف يفترض تدخل نقابات وهيئات المهنيين، حين يتعلق الأمر بالفنانين والإعلاميين والمبدعين عامة الذين ضاع بريقهم حين تعطلت أدوات الإبداع بداعي المرض والسن والخذلان.
يضيق المجال لتسليط الضوء على نجوم الأمس الذين تحولوا إلى مجرد نزلاء عابرين لدور الرعاية الاجتماعية، خاصة حين يصبحون عرضة للتخلي من طرف الآباء أو الأبناء أو الأقارب.
في الملف الأسبوعي لـ»الأخبار» وقفة حزينة في الفضاء الوحيد الذي يحصي فيه المرء أخطاءه ويعترف بسوء التقدير الذي ميز تدبير مساره.
طباخ معمر القذافي في دار المسنين
انتهى المطاف بالحسين في دار رعاية المسنين بالرباط، بعد أن عانى من الفقر والتشرد في آخر حياته. لم يكن يعتقد أن حياة الترف التي عاشها في ثكنة باب العزيزية بطرابلس ستنقلب رأسا على عقب.
بدأت القصة حين انتقل الحسين من سوس العالمة إلى طرابلس الليبية للعمل في فندق «صحاري» بالعاصمة، واضعا تجربته في فنادق أكادير رهن إشارة المؤسسة السياحية الجديدة، رغم أن ليبيا في عهد القذافي لم تكن وجهة سياحية ولا يتم الاعتماد على عائداتها كدخل مالي في ميزانية هذا البلد.
كان مطعم الفندق يعرف توافد شخصيات من القيادات العسكرية الليبية، سرعان ما تحولوا إلى زبناء للفندق حيث كانوا يشترطون أن تكون الوجبات من يدي الطباخ المغربي، وحين صعد نجمه جيء به إلى مقر إقامة معمر القذافي وأصبح عنصرا أساسيا في خدم المطبخ، وبفضل حنكته وتخصصه في الأطباق المغربية والأوروبية، نال الرجل مكانة خاصة لدى الرئيس الليبي وأبنائه.
بفضل هذه المهنة، التي كان يبدع فيها، دخل الحسين مقرات سكن كبار مسؤولي الدولة في ليبيا، في عهد جماهيرية القذافي، وأتيحت له فرصة مرافقة الموكب الرئاسي إلى كثير من دول العالم، ولقائه بالعديد من القادة العرب والأجانب في تجمعات ثنائية أو جماعية كما اطلع على أسرار عائلة القذافي.
بعد أن قضى ثلاث عشرة سنة في خدمة الرئيس وعائلته، سيحل الربيع العربي ويصبح رأس معمر مطلب الثوار، حينها انسحب الحسين من مربع الرئيس على غرار كثير من خدمه الأجانب، غالبيتهم قدموا شهادات كشفوا فيها عن أسرار العقيد بمجرد سقوطه في أيدي الثوار.
ولأنه كان من خدم الزعيم المطاح به، اعتقلت الميليشيات الحسين وطلب منه زعماؤها الكشف عن أسرار المطبخ الرئاسي، قبل أن يتم احتجازه وتجريده من ماله، فاضطر للعودة إلى المغرب دون تعويضات، هاربا من مشانق تطارد «رجال ونساء» العقيد.
عاد الحسين إلى المغرب عبر تونس، لكن لا أحد تحمل فقره حتى أضحى مهددا بالتشرد والقهر، حينها تدخلت السلطات الأمنية والقضائية فأحالته على دار المسنين بالرباط، حتى لا يقدم على رد فعل أليم وهو الذي عاش ترف الحياة في رحلات معمر.
من لاعب محترف في أوروبا إلى نزيل دار العجزة
غاب نور الدين العامري مدة طويلة عن الأنظار، منذ أن احترف في فريق برتغالي واعتزل فيه الكرة. حين عاد إلى المغرب لم يتعرف لاعبو النادي القنيطري على زميلهم الذي عاش معهم في الفريق الغرباوي سنوات المجد، فقد تغيرت ملامحه وعجزت قدماه عن حمله..، قبل أن يعلموا، عبر إحدى الصحف، أن نور الدين العامري، اللاعب السابق للنادي القنيطري والمنتخب الوطني الثاني والمنتخب الجامعي، نقل إلى مستشفى مدينة العرائش في وضعية صحية حرجة، بعدما أصيب بالشلل وفقد النطق. علم رفاقه أنه حل بالعرائش بعد أن تم ترحيله من البرتغال، وفي هذه المدينة المغربية أحيل على دار المسنين إثر تدهور حالته الاجتماعية.
قال عميد النادي القنيطري السابق، نور الدين البويحياوي، إنه علم بالخبر من طرف أحد أقارب اللاعب، بعد أن انقطعت صلة العامري بزملائه، وهو ما دفعه إلى زيارته ذات يوم بالمستشفى رفقة بعض اللاعبين القدامى.
لعب العامري للمنتخب الوطني الرديف، وشارك رفقة المنتخب الجامعي في الألعاب الجامعية الدولية بالمكسيك سنة 1979، كما توج رفقة النادي القنيطري بلقب البطولة في مناسبتين، وخاض نهائي كأس العرش في الثمانينات. لفت أنظار فريق برتغالي خلال معسكر للفريق في الديار البرتغالية لينضم إلى البطولة الاحترافية بمدينة لشبونة.
وحسب البيانات المتوفرة لدينا، فإن اللاعب المغربي تزوج في البرتغال وعاش بعد اعتزاله على إيقاع خلافات عائلية رمت به وحل الضياع، فلم يجد سندا عائليا في محنته بالرغم من الجهود التي بذلها بعض أفراد الجالية المغربية في البرتغال وقدماء «الكاك» الذين أقاموا له حفلا تكريميا حضره نور الدين وهو على كرسي متحرك.
ولأنه لا يتوفر على ملاذ عائلي في المغرب، وجد نور الدين نفسه عرضة للتشرد، قبل أن تتدخل السلطات الأمنية، بمؤازرة من قدماء «الكاك»، وأحالته على مؤسسة الدار الكبيرة للأعمال الاجتماعية ضيفا معززا في جناح خاص تحت مواكبة طاقم طبي متكون من أربعة أطباء زائرين كانوا يتابعون حالته الصحية بانتظام.
تقرر أن يغادر العامري المؤسسة فور تماثله للشفاء ويستقر في منزل عائلته، المتواجد بحي «لاسيكون»، على أن يتكفل رئيس النهضة القنيطرية، بتنسيق مع دوليي القنيطرة السابقين وفعاليات بالمدينة، بترميم وإصلاح المنزل المذكور، مع وضع مساعدة رهن إشارة الدولي السابق، نور الدين العامري، قصد رعايته والسهر على راحته.
ليس نور الدين اللاعب الوحيد الذي قضى آخر أيامه في دار رعاية المسنين، بل هناك وجوه رياضية كثيرة عاشت في كنفها وهي تعيش أرذل العمر، على غرار العربي شيشا الذي لا يحتاج، للأمانة، زينة الحياة الدنيا، فله أبناء من زواج مختلط يعيشون الرفاه في فرنسا، وله تقاعد مريح من الحكومة الفرنسية و»مأذونية» يقتات منها عند الحاجة، وكانت له أكثر من التفاتة من مؤسسة محمد السادس للأبطال الرياضيين حين اشتد به المرض، لكن ساقيه رفضتا تحمل جسده المنهك حين أصبحت تنبعث منه شرارة الغضب ضد كل كائن رياضي. كان شيشا أحوج، من أي وقت مضى، للرعاية النفسية، إلى سماع تصفيقات حتى ولو في استوديو تحليلي تثبت وجوده في منطقة الستر والعفاف والغنى عن الناس.
ملوكي.. ضابط في جناح المسنين لتيط مليل
في الجناح الخاص بالمسنين بالمركز الاجتماعي دار الخير بتيط مليل، كان نور الدين ملوكي يقضي يومه على كرسي متحرك آلي أهداه إياه محسن كان ينتمي لسلك الجيش. رجل أسمر الملامح، تغزو وجهه تجاعيد صلبة، ويحتل الشيب جزءا كبيرا من رأس مشبع بالمحن.
قال الحارس العام للمؤسسة إن الرجل يملك رقما قياسيا وطنيا في الزواج، حيث يفخر بقرانه من11 امرأة، كان من مضاعفات هذا التعدد غير المسبوق وجود 39 حفيدا إلى غاية كتابة هذه السطور، وهو رقم مرشح للارتفاع.
نور الدين ليس شخصا عاديا، فهو رجل مثقف مدمن على تتبع نشرات الأخبار بهوس الإدمان نفسه الذي رمى به في دار الخير. يغضب سريعا كلما ضرب عطب جهاز التلفزيون وهو الحريص على متابعة آخر تطورات بؤر التوتر في العالم، كيف لا وهو الذي ينصب نفسه خبيرا في الشأن العسكري، وهو المتقاعد من القوات المسلحة برتبة ضابط، وعرف بقدرته على قيادة أصعب الفيالق قبل أن ينتهي به المطاف في فيلق مسنين سقطت منهم النياشين بفعل التقادم والاستهتار بالمسؤولية.
انفصل ملوكي عن الوسط العائلي وارتمى في خلوته الماجنة، يقول مدير المركب الاجتماعي، وحين تم إيداعه هذا الفضاء، بتوجيه من عامل المحمدية السابق، أيقن أن لكل شيء بداية ونهاية. زاره أبناؤه ووعدوه بدخول القفص الذهبي رقم 12، وحين أخلفوا الوعد، غضب نور الدين وانتابته نوبة كآبة انتهت بعطل في الحبال الصوتية حوله إلى كائن عاجز عن النطق والاحتجاج.
في دار الخير بتيط مليل أسماء عبرت دون أن تستطيع قضاء ما تبقى من حياتها في هذا المكان، خاصة أولئك العائدين من سجون البوليساريو والذين حاول والي الدار البيضاء السابق التخلص منهم بوضعهم في هذه المؤسسة إلا أنهم رفضوا ووصل صوتهم إلى وزير الداخلية الذي أعطى تعليماته بإنهاء «اعتقالهم» الثاني في بلدهم، حيث وضعت رهن إشارتهم غرف في مركب محمد الخامس لكرة القدم.
نزول اضطراري لربان طائرة بدار البر والإحسان
منذ عقد من الزمن حط الطيار محمد صبر بمرقد في دار البر والإحسان بمراكش. كان الرجل، قبل هذا التاريخ، من أمهر الطيارين في السلاح الجوي، قبل أن يغادره صوب الطيران المدني، إلا أن القدر كان يخبئ له نهاية مفجعة، بعد أن تعرض لحادث سير أنهى مساره المهني وحوله إلى أجير سابق يطارد، عبر ردهات مصالح المعاش وحوادث الشغل، تعويضات معطلة وفي أحسن الأحوال مجرد قطرات تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة.
حكاية النزول الاضطراري للطيار الحزين في مدرج دار تعنى بشؤون المسنين المتخلى عنهم، بدأت بمكالمة هاتفية من محسن يتابع تفاصيل حياة القهر التي دخلها الطيار إثر إصابته بعاهة مستديمة، تفاعلت الإدارة مع القصة المأساوية وانضم بعض المحسنين إلى جهود البحث عن مخرج من الضائقة ولو بتوفير سرير في دار للرعاية، سيما بعد أن هزل معاشه ولم يعد يكفي لإعالته فأضحى معرضا لكل النكبات. «عرضت حكايته على المسؤولين فتمت الموافقة على إيوائه على الأقل لإنقاذه من الضياع، ورغم معاناته الطويلة ظل محافظا على هندامه وطهارته وبعض عاداته كالمطالعة المستمرة»، يقول المدير السابق للمؤسسة.
في دار البر والإحسان تسلح صبر بالشجاعة والصبر وتعايش مع مئات المسنين أغلبهم جاؤوا إلى المؤسسة مكرهين بعد أن كنستهم دورية للشرطة من بؤر المتسولين، خاصة جامع لفنا وكليز، بل إن عدد نزلاء الدار يرتفع بشكل ملحوظ كلما كانت مدينة البهجة تستعد لاحتضان أحد الملتقيات الدولية.
لاعب المنتخب المغربي للريكبي عابر في دار المسنين
قدر لمحمد مرحوم، اللاعب الدولي المغربي في لعبة الريكبي، أن يقضي فترة اعتزاله الممارسة الرياضية على سرير في أحد عنابر دار المسنين بالدار البيضاء، إلى جانب عدد من الأشخاص العجزة الذين فقدوا بوصلة الحياة وعانوا من التفكك الأسري، قبل أن يعثروا على سرير ووجبة وحمام في هذه المؤسسة الاجتماعية التي تعنى بالمسنين المتخلى عنهم.
كان يقضي سحابة يومه في رتابة، لا يهرب منها إلا بتفحص صوره القديمة حين كان يصول ويجول في ملاعب الكرة المستطيلة، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد أجرى البطل عملية جراحية معقدة بإحدى مصحات منطقة عين الشق بالدار البيضاء، حولته من نزيل دار للرعاية إلى نزيل مستشفى للمعوزين.
بدأ مسلسل النكبة حين تلقى مرحوم، بعد اعتزاله، إشعارا بإفراغ السكن العائلي الذي كان يقطنه، وعلم حينها أن والده سجل المسكن العائلي باسم إحدى قريباته، وأن نصيبه من الميراث لقب عائلي وإصابة مرضية موروثة أبا عن جد.
عاش مرحوم لحظات التألق مع نادي أولمبي الدار البيضاء الذي ضمه إلى صفوفه حين التحق بالمنتخب المغربي للشباب وهو حينها عميدا لنادي الشرطة، ففي سنة 1968 تحول إلى بطل لا يقهر وصنفته الصحف موهبة للغد، وبعد سنة حط الرحال مع المنتخب الأول الذي منحه الشهرة، سيما بعد أن شارك يوم 12 أبريل 1969 في مدينة برشلونة الإسبانية في منافسات كأس الأمم التي فاز فيها المغرب في نصف النهاية على ألمانيا قبل أن ينهزم أمام المنتخب الفرنسي في نهائي تاريخي. ومن المفارقات الغريبة في حياة هذا البطل الحزين أنه لعب إلى جوار أسماء تبوأت كرسي القيادة وأصبحت لها مكانتها في وزارة الشباب واتحاد الريكبي المغربي والإفريقي وحتى العالمي، خاصة رئيس الكونفدرالية الإفريقية لهذه اللعبة عزيز بوكجة..
بعد أن انتهى به المشوار نزيلا بدار المسنين يتقاسم مع باقي نزلائها الوجبات الغذائية والمرقد ودورات المياه والسعال الذي يعم الفضاء، وحين يحاول الرجل المنهك استحضار ما تبقى من ذكريات تنهمر الدموع من عينيه فترسم مجراها على خديه، فيسكت مرحوم عن الكلام المباح، وهو يقتات من مقارنة عسيرة بين الماضي والحاضر بين زمن الشهرة والجاه وزمن القهر والمرض والمعاناة.
فجأة انتشلته يد رئيس الجامعة الملكية المغربية للريكبي بفضل تدخل من الإذاعي أبو سهل، وأصبح موظفا بمقر الجامعة في مركب محمد الخامس بالدار البيضاء، حيث طوى صفحة العتمة من حياته وتطلع إلى غد جديد.
إطار بوزارة الداخلية في جناح العجزة بأسفي
بعد أن أنهى دراسته الجامعية، التحق مولاي التهامي الوزاني بالخدمة المدنية في وزارة الداخلية، قبل أن يتم إدماجه في أم الوزارات ويصبح إطارا عاليا في مصالحها المركزية، حيث تسلق سلم التأجير بسرعة وأصبح إطارا من «كوادر» جهاز الداخلية.
لكن مرضا على مستوى البصر سيعصف بمساره وسينهي انتظامه في مساره المهني في قطاع لا يقبل الانقطاع، بالنظر إلى حجم الملفات التي يتم فحصها.
في حوار صحفي يتحدث التهامي عن رحلته من الوجاهة الوظيفية إلى نزيل في دار للمسنين بمدينة أسفي. «صعدت سريعا في سلالم إدارة تتطلب الانضباط التام، وارتقيت من موظف إطار بمصالح وزارة الداخلية إلى نزيل بدار المسنين بأسفي. عائلتي من أعيان وأثرياء مدينة فاس ولكن فقراء في القلب والعقل».
في سريره بمرقده في المؤسسة الإحسانية يحاول التهامي إعادة قراءة هفواته التي كلفته غاليا، حيث اعتبر نفسه وراء ما آلت إليه أوضاعه الاجتماعية، في الوقت الذي يتضاءل الأمل كل يوم، خاصة وأنه يتابع من دار المسنين جور عائلته الميسورة التي أغلقت في وجهه الأبواب منذ إصابته بمرض على مستوى شبكة العين، قبل أن يتفاقم الوضع بعد طرده من الوظيفة العمومية، ليقضي أيامه في البحث عن مخرج من الضائقة ولو بتحصيل معاش ينقذ به ما يمكن إنقاذه.
في دار المسنين بمدينة أسفي، يعيش الوزاني عزلته الاضطرارية، يحاول أن يعيد ترتيب وقائع الزمن الغادر، الذي حوله من موظف كبير إلى شخص ضرير يقف في طابور قاعة الأكل إلى جانب عشرات النزلاء في انتظار وجبة غذاء، بعد أن كان يملك سلطة القرار، إلا أنه يواجه روتين جناح يضم أشخاصا رمت بهم الأقدار على رصيف الزمن، بنظم قوافي الشعر والتغني بجمال مدينة يعوزه البصر على فهم ومشاهدة تفاصيلها الصغيرة.
مثل هذه الحالات تحتل مساحة في أكثر من دار لرعاية المسنين، وغالبا ما تحظى بمعاملة خاصة على الأقل احتراما لتاريخها ومكانتها التي شاخت كما شاخ الجسد وأصبح مجرد رقم في سجل النزلاء.
في المؤسسة نفسها مات ملاكم دولي قدر له أن يغادر الحلبة متوجا ويلتحق بغرفة صغيرة بدار المسنين لأسفي، إلى جانب نجوم عاشوا الشهرة والجاه والوجاهة قبل أن يتحولوا إلى أرقام في سجل الحضور.
صاحب أكبر مكتبة بوجدة ينتهي في قبضة الزهايمر
يعرفه سكان الجهة الشرقية بلقب «المراكشي»، واسمه الكامل محمد الرحالي، من مواليد سنة 1936 بمدينة مراكش، قبل أن ينتقل رفقة عائلته إلى مدينة فاس حيث تابع دراسته. وفي سن العشرين أصبح بائعا للكتب المستعملة معروفا في وسط طلبة القرويين باهتمامه بأمهات الكتب، قبل أن يرحل إلى مدينة وجدة.
يقول المراكشي إن الكثير من المواقف الكبرى في حياته سقطت بفعل إصابته بمرض الزهايمر الذي حجب عليه الرؤية نحو الماضي، حين كانت مكتبته مزارا للعديد من رجال الفكر والباحثين على مستوى جهة الشرق، بل إن كثيرا من الأدباء الجزائريين دعوه لزيارتهم وأصبحوا من زبائنه في صرح ثقافي بكل ما تحمله المكتبة من معنى.
كلما حاول استرجاع بعض اللحظات التي قضاها في هذه المكتبة غالبته الدموع، وبالخصوص السنوات الأخيرة بمكتبته التي كانت تحمل اسم المراكشي بشارع «طايرت» غير بعيد عن باب سيدي عبد الوهاب.
في حوار مع قناة «الجزيرة» التي أعدت شريطا وثائقيا حول الكتبي الأسير بدار المسنين، يتحدث المراكشي ويستحضر بصعوبة ما علق في ذهنه من ذكريات: «العديد من النخب والطلبة وحتى التلاميذ مروا من مكتبتي، لا أتذكر الأسماء ولا المناصب التي تقلدها عدد من زبائني في ما بعد لكني أتذكر أنهم كانوا بأعداد كثيرة، وجدوا عندي ما لم يجدوه في باقي المكتبات المنتشرة بالشارع نفسه أو حتى في أرجاء المدينة وعموم الوطن، بما فيها المكتبات التي تقدم الكتب الجديدة. حين قررت الاستقرار في مدينة وجدة فضلت عالم الكتب حتى وأنا في دار المسنين لا يفارقني الكتاب».
ما كان يميز مكتبة المراكشي عن باقي المكتبات، أن صاحبها كان يعير القصص للتلاميذ مقابل درهم واحد، في إطار عملية تكافلية لنشر العلم والثقافة، قبل أن يبيع المكتبة لتاجر آخر يدعى إدريس المقدم، الذي غير اسمها وجعل لها اسما يليق بتاريخها، حيث أطلق عليها اسم «المكتبة التاريخية»، اعتبارا لتاريخ تأسيسها الذي يعود لسنة 1956 كما هو موضح على واجهتها.
اضطر المراكشي لبيع المكتبة بعد أن عجز عن تسديد واجبات الكراء، أمام هجوم الإعلام الرقمي والكتب الرقمية والعزوف عن قراءة الورقي.