شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

من خفايا حرب الخليج (2)

 

بقلم: خالص جلبي

كم عدد الذين سقطوا من الجانب العراقي؟ قد يكون الرقم ما يزيد على مائة ألف عراقي، وهي حقيقة بدأ قادة المعارك من الحلفاء يؤكدونها من مركز قيادتهم العامة، وثلثا الضحايا كانوا قد سقطوا لتوهم قبل بدء الحرب البرية. والموت الذي استل أرواحهم كان بالقنابل من الجو، قبل أن تبدأ معركة الإفناء الكامل على الشكل الذي كان يتصوره ذو الرأس الأسود. ولعل العدد كان أكبر من ذلك بكثير.

لقد شكك تابع للاستخبارات العسكرية الأمريكية في صحة الأرقام قائلا: «إن شبابنا في ساحات القتال لم ولن يعدوا الأرقام من القتلى، بكل بساطة كانوا يجمعون أكوام الجثث ثم يطرحونها في مقابر جماعية، ثم يسوونها برمال الصحراء. وكانت الطائرات الأمريكية الهليكوبتر من نوع «الأباتشي» لها الدور الأكبر في ذلك».

وهناك شهود عيان ممن رأوا المذبحة، من خلال أشرطة فيديو عرضت عليهم من الفيلق الثامن المحمول جوا. قال المراسل الصحفي الأمريكي «جون بالزر John Balzer»، الذي يعمل لحساب «التايمز» من لوس أنجلوس، بعد عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية: «كان فيلم الفيديو المعروض يحمل التفصيلات بشكل غير عادي، كان الفيلم مأخوذا بالأشعة تحت الحمراء. لذا فإنه كان يومض ويتوهج بهذه الألوان الموحشة الكئيبة بين الأخضر والأبيض. ومن بين بعض اللقطات ما أثر على الرجال العسكريين الذين يستعرضون مناظر الموت، إلى درجة أن بعضا منهم بدأ يميل إلى القيء».

بدأ الفيلم يعرض لهجوم قامت به طائرات «الأباتشي» ضد مجموعة من التحصينات والمخابئ العراقية، حيث بدأ المتبقي من الجنود على قيد الحياة يتراكضون من مخابئهم، ليسقطوا مباشرة في جحيم النيران المنصب عليهم من مدافع الطائرات العمودية المصفحة، والتي تطلق 625 طلقة في الدقيقة الواحدة. يقول «بالزار»: «كان الواحد تلو الآخر يحصد (بالحرف الواحد)، وعندما سقط أحدهم على الأرض وتكوم والتوى على نفسه، ثم حاول النهوض ثانية، إلا أن الرشقة التالية عاجلته فمزقته تمزيقا. كان الجنود المتراكضون في كل اتجاه حذر الموت، والذين كانوا يبدون مثل لاعبي كرة القدم في شاشة التلفزيون، ولكنهم لم يفروا إلا إلى مواجهة الموت الذي كان يحصدهم. هذا الجيش الصامت من طائرات «الأباتشي» يعد من أشد أجهزة الإفناء ذات الفعالية الكاملة، والتي استخدمت في حرب الخليج. لقد بلغ عنف الإطلاق درجة مريعة عند الطيارين، حدت بشفارتز كوبف أن يحذرهم من الاستعمال المفرط للطاقة النارية. بدواعي الكلفة، «أن يقتصدوا في النار التي بها يَقتلون».

كان الطيارون يذبحون العراقيين بدون أن يصيبهم ولا رشاش دمهم المتدفقة، روى أحد طياري «الأباتشي» المدعو «رون بالاك Ron Balak»: «كنا نذبحهم في الظلام جماعات جماعات، ولم نكن نأبه من تصيب، وماذا تصيب، وقال لي صديق: لقد بدا المنظر وكأنه هجوم على مزرعة خرفان قد فتحت، ونحن نذبح فيها».

إن مثل هذا الوصف لما حدث من إبادة القافلة العسكرية، والإفناء الكامل للخصم، الذي كان يدور في مخيلة ذي الرأس الأسود «شفارتز كوبف»، يثير الشعور أن حرب الخليج تبقى هي تلك الحرب القذرة من أمثال ما حدث في فيتنام.

تقول المؤرخة الأمريكية «روث روزن Roth Rosen»، من جامعة كاليفورنيا، وهي تعزي هذه الروح الإجرامية إلى سينما هوليوود وثقافة العنف، من أمثال فيلم «فوهة المسدس Top Gun» و«رامبو» التي تنفخ هالة البطولات العسكرية.

أما المحلل الصحافي «جون ليو John Leo»، فإنه شنع بمقالة كتبها في مجلة «أخبار أمريكا» ـ التقرير العالمي بقوله: «إن أفلام الفيديو المعروضة من العسكريين تبرز حقيقة الوهم في النزاعات (العقيمة والنظيفة كذا)، وكل ما عرضوه لا يزيد على تذوق كامل لمناظر الرعب والهول الأعظم».

أما المحلل الأمريكي لحرب الخليج، «دونالد كير Donald Kerr»، والذي يعمل في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فإنه أضاف يقول: «كان السلاح الغربي في عنف ومفاجأة الكارثة الطبيعية، تلك التي نزلت في الشرق الأوسط. خذ لذلك مثلا القاذف المتعدد من نوع (MLRS)، فكل واحد من قاذف الصواريخ يقذف في الدقيقة الواحدة 7728 قذيفة».

إن الرعب الذي حاق بمنطقة «المطلاع» يبقى رمزا لعبثية وضع الأسلحة موضع التنفيذ، ولا يبرره ما قيل بعد ذلك إن العراقيين الهاربين رجعوا بأسلاب وغنائم من الكويت. إنه يبرر فقط سخرية الأشياء، وأنه أمر دبر بليل لإفناء الخصم. هل يبرر القتل الجماعي أن جنودا رجعوا بمسروقات من مثل جورب أو طلاء للأظافر أو سجادة أو عدسات غطس تحت الماء؟

أما الجنرال الأمريكي ذو النجوم الأربع «ميريل مك بيك Merrill McPeak»، ففي عرفه أن هناك ما يبرر هذه المجزرة. قال الجنرال: «إن هذا يكمن في طبيعة الأشياء، إن هناك أمور شنيعة على المرء أن يقوم بها أحيانا». وفي مناسبة أخرى وصف الجنرال نفسه الهجوم الجوي بنزهة جوية ممتعة!

 لقد تم دفن العراق بيد إخوته الأشقاء الأشقياء العرب، ولم تكن حربا، بل مسلخا حقيقيا. وكان حق الفيتو في الشرق الأوسط، ولم يكن في مجلس الأمن. وبجانب القوات الأمريكية اصطفت القوات العربية في منظر سريالي. واليوم تدور الدائرة على كل العرب، وتتكرر قصة الثيران الثلاثة. ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأحمر. ويبدو أن كل ما نكتب ليس له أي قيمة، ولا تتعلم الشعوب إلا بالعذاب الأليم. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. فتزاد الجرعة على أمل الرجوع، وما زالت في ازدياد بقدر النوم إلى حين الاستيقاظ على الألم وشدته. ولكن صدام بعد كل الكارثة اعتبر نفسه بطلا هزم العالم، ولذا فهو يستحق أن ينتخب مائة في المائة بقدر حجم الكارثة. في الوقت الذي انضغطت الأمة إلى الصفر، فحق عليهم المسخ إلى قردة وخنازير وعبد الطاغوت.

 

نافذة:

الرعب الذي حاق بمنطقة «المطلاع» يبقى رمزا لعبثية وضع الأسلحة موضع التنفيذ ولا يبرره ما قيل بعد ذلك إن العراقيين الهاربين رجعوا بأسلاب وغنائم من الكويت

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى