بقلم: خالص جلبي
نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية، في العدد 15 الصادر في 8 أبريل من عام 1991م، بعنوان «هل وقعت في الخليج جريمة حرب أمريكية؟»، بعد أن كشف النقاب عن مذبحة مروعة تناولت القوات العراقية في «المطلاع» على الحدود العراقية الكويتية، بعد أن غادرت القوات العراقية الكويت. والآن بعد واحد وثلاثين سنة على مرورها قد تنجو المقالة من المصادرة وتخرج إلى الضوء، فيطلع القارئ على بعض من خفايا حرب الخليج. ومن الغريب أننا في العالم العربي في وضع لا يستطيع المذبوح أن يقول إنني أذبح، في الوقت الذي نشرت هذا الخبر مجلة ألمانية. لنحاول نقل ما وقع تذكيرا للناسي وخبرا للجاهل، وسأبقى أكررها للقارئ فهي مسؤولية الكاتب الواعي.
«كان منظر الشارع الذي يقود إلى الشمال في العراق، يحكي فصولا من الجحيم لدانتي. فمع تصاعد سحب الدخان من حقول البترول المحترقة في الكويت، وتدافعها إلى عنان السماء مثل الغيلان الفظيعة، تحولت الدنيا إلى ما يشبه الغروب». كان هذا المنظر قد أثر في الميجر «بوب نانتBob Nugent» إلى مخ العظام.
قال الرائد الأمريكي: لم أر مثل هذا حتى ولا في فيتنام! قالها وهو يلقي نظرة على مقبرة بطول كيلومترات من السيارات المدمرة والشاحنات المحترقة، والجثث التي تدافعت إليها كلاب الصحراء من كل صوب والملقاة هنا وهناك في الصحراء. بعض هذه الجثث قد ذاب عنها اللحم وتحولت إلى هياكل عظمية. وفي داخل السيارات المحترقة الجثث المشوية، التي التصقت بمقود السيارة ببقايا كانت في يوم من الأيام أذرعا وأيادي.
كانت مهمة الميجر البحث بين الأنقاض عن الوثائق العسكرية التي خلفها الجيش العراقي، ولكن لم يبق ما يستحق الاهتمام بعد الهجوم القاتل في 25 فبراير، أي قبل وقف إطلاق النار مع العراق بثلاثة أيام.
وفي ذلك اليوم الذي أعلن العراق انسحابه من الكويت، قامت طائرات «إف- 16» والقاذفات المطاردة من حاملة الطائرات «رانجر Ranger» بمهاجمة قافلة عسكرية عراقية لساعات متواصلة، وهي ما تبقى من قوات الاحتلال العراقية في الكويت، وكانت تريد الهرب باتجاه البصرة، ولكن القافلة تعرضت للقصف كعمل انتقامي لا يوصف بأقل من جريمة حرب.
وعندما أرادت هذه القافلة الهرب من الجحيم وهي هاربة إلى الشمال، سقطت بشكل يائس في الفخ، وعلى الجانب من سلسلة مرتفعات «المطلاع» كانت الدبابات الأمريكية من نوع (أبرامز ـ م ـ 1 ـ Abrams type M1)(1) تتقدم، وهي الأحدث من نوعها في الترسانة الأمريكية، تعمل بتوربينات غازية ومزودة بمدافع ملساء ألمانية الصنع، بحيث لم يبق أمام العراقيين إلا أن يستسلموا كما فعل عشرات الآلاف من رفاقهم من قبل. ولكن بدلا من هذا، فقد سقطوا ضحايا أعنف هجوم جوي حصل منذ بداية الحرب، قبل 43 يوما. فقد قام طيارو حاملة الطائرات «رانجر» مجددا بطلعات جوية، كما ذكرت مجلة «التايم» وحملوا بشكل عشوائي من الصواريخ والقنابل العنقودية تحت الأجنحة، بدون انتظار للذخائر المخصصة لها والتي توضع في العادة على السطح. إن الصور التي عرضت في التلفزيون عن مصير بقية القافلة في ذلك الوقت، كانت مقاطع من الكارثة من شارع ذي ستة مجالات، والممتد بين المطلاع ومدينة صفوان العراقية. هنا في هذا المكان انصبت على العراقيين حمم النيران، كأنها حجارة من سجيل من القنابل العنقودية التي حولت السيارات والناقلات العراقية إلى عصف مأكول. أما النصف الثاني فقد حاول الفرار عبر طريق آخر مزدوج، وفي مخلفات الموت لهذه القافلة على مد النظر كان الميجر نانت يبحث عن وثائق عراقية متبقية.
ماذا حدث فعلا في حرب الخليج؟ لم يبق من آلاف العراقيين الذين وقعوا في هذه المصيدة على قيد الحياة سوى 450 فردا، في حين بلغ قتلى الأمريكيين 124 شخصا وهم بالمقارنة مع قتلى العراقيين الذين بلغ مائة ألف أو يزيدون يعدون شيئا تافها. والآن وبعد أن انجلى غبار الحرب، فإن الحجم الكامل للمأساة ظهر جليا للعيان. وبدأت في أمريكا وبريطانيا موجة الشك والانتقاد الذاتي لما حدث. فالكاتب البريطاني مثلا والمذيع الإخباري لحرب فيتنام، «جون بيلجر John Pilger»، قال: «لم تكن حرب الخليج إلا حمام دم من طرف واحد، ولم يكن نصر الحلفاء إلا مذبحة جماعية».
وما حدث في مطلاع شهر فبراير 1991م أن القافلة العراقية التي هوجمت كان طولها 16 كيلومترا، يرافقها 60 ألف جندي عراقي، وما أعلن عنه آنذاك أنه أبيد ما يزيد على 90 في المائة من الأرتال المتقدمة، ولكن المعلومات كانت تضيع في جعجعة الحرب، أو تمر عبر مصفاة المراقبة الإعلامية العسكرية (2). على كافة الأحوال فإن الخسائر على الطرف العراقي يصعب تعيينها، خاصة وأن بغداد احتفظت بأرقام الإصابات لنفسها، لرفع المعنويات القتالية عند الجنود. وعلى الطرف الآخر فعل الشيء نفسه «شفارتز كوبف ـ Schwartzkopf ذو الرأس الأسود» (3). وهكذا فإنه لم يخبر عن عدد الإصابات في الطرف العراقي، وبذا فإن النموذج الفيتنامي عن عدد الجثث تم تجاوزه (Body Count)، ولم تعد مناسبة في حرب تعتمد التكنولوجيا العالية وتخضع للمراقبة العسكرية، التي تحاول الظهور ما أمكنها بأقل قدر ممكن من الضحايا و(نظيفة) إلى أبعد الحدود (4).
الهوامش والمراجع:
(1) من مهازل الحرب أن الروس كانوا قد باعوا إلى العراقيين دبابات «ت-72»، تحمل مدافع بمسافة رمي أقل من دبابات «أبرامز» الأمريكية، وهو سر نقل بالطبع للأمريكيين. وهو يعني أن الأمريكيين ليس عليهم سوى أن يبتعدوا بمسافة أبعد من مسافة رمي الدبابات العراقية، وحرقها مثل دمى الأطفال. إنها لعبة ممتعة كما نرى، وهي تؤكد القانون الذي يقول: إنه لا يعقل أن تنتصر على خصمك بسلاح صنعه خصمك. (2) حتى أن نفس أعداد مجلات «دير شبيغل» انقطعت عن ورودها، بما فيها هذا التقرير عن المذبحة، وبعد أن انتهت الحرب جاءت الأعداد دفعة واحدة. كنت أفكر في شفارتز كوبف وهو يضحك علي، ويقول إن أردت القراءة فتفضل الآن بعد أن أنهينا عملنا، ونقب في حصاد الهشيم. (3) شفارتز باللغة الألمانية تعني أسود، وكوبف تعني رأس، فيكون اسمه مترجما إلى العربية ذو الرأس البهيم، ولعل أصوله البعيدة ألمانية، وقد أدى عمله بالدقة الألمانية المعهودة. (4) بلغت آلة القتل من الدقة والإنجاز ما تقوم بعملها مع التصوير للعملية، مثل إجراء أي عملية جراحية في قاعة العمليات.
نافذة:
الآن وبعد أن انجلى غبار الحرب فإن الحجم الكامل للمأساة ظهر جليا للعيان وبدأت في أمريكا وبريطانيا موجة الشك والانتقاد الذاتي لما حدث