جاءَ من بلادِ قومهِ يبحثُ عن الإسلامِ، ويرغبُ اللقاءَ بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، ومع تخفيه واحتياطِه بالسؤال، إلا أنه لم يَسلم من أذى قريشٍ وَصَلَفِها، إذ كانت تؤذي كل من ينتسبُ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو يتصل به، ولكن صاحِبَنا، صاحبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم-كان رابطَ الجأشِ، قوي الإرادةِ، قادراً على التحدي والصمودِ في سبيلِ اعتِنَاقِ الدينِ الحق.
ولقد راغمَ قريشاً بعد إسلامِه فأقسم ليصرَخن بالشهادتينِ بين ظَهرانَي قريش في وقتٍ كانت قريشٌ تخنقُ الأنفاسَ فخرج حتى أتى المسجدَ، فنادى بأعلى صوتِه: أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأن محمداً رسولُ الله، فثارَ القومُ فضربوه حتى أضجعوه… حتى تدخل العباسُ رضي الله عنه وأكب عليه فتركوه.
أبو ذر رضي الله عنه تحمل في سبيلِ الإسلامِ وأيامه الأُولى أذى قريش، لكنه دق مسماراً في نَعْشِ دِيانتهم، وحطمَ كبرياءَهم، وأسمعهم كلمةَ الحق وهم كارهون.
فقصةُ إسلامهِ وخبرُ مجيئِه إلى مكة جاءت في (الصحيحين) مطولةً حيث أنه مكثَ بمكة قبلَ لقُياهُ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ما بين يومٍ وليلة… وما كان له طعامٌ إلا ماءَ زمزم، ومع ذلك سَمِن منها، وما وجدَ على بطنه سَخفَةَ جوعٍ كما يقول-، وحينها قالَ له عليه الصلاة والسلام: «إنها مباركةٌ، إنها طعامُ طُعْمٍ»، أي: يَشبعُ الإنسانُ إذا شربَ ماءها كما يشبعُ من الطعام. رواه مسلم.
كان رضي الله عنه رأساً في الزهدِ والصدقِ والعلمِ والعملِ، قَوالاً بالحق، لا تأخذه في اللهِ لومةُ لائمٍ، على حِدةٍ فيه، كما قال الذهبي رحمه الله.
كان نموذجاً في الدعوة إلى الله، وفي روايةِ (الصحيح): إن أبا ذر حين أسلمَ انطلقَ إلى أخيه (أُنيس) فقال له: ما صنعت؟ قال أبو ذر: صنعتُ أني أسلمتُ وصَدقتُ، قال (أخوه): ما بي رغبةٌ عن دينِكَ، فإني قد أسلمتُ وصدقتُ، قال: ثم أتينا (أُمنا) فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكُما، فإني قد أسلمتُ وصدقتُ.
قال: فاحتملنا -يعني متاعنا وأنفسَنا على إبلِنَا وسِرْنا حتى أتينا قومَنا (غِفاراً) فأسلمَ نصفُهم… وقال نصفُهم: إذا قدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أسلَمنا، وصدَقوا، فلما قدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أسلمَ نصفُهم الباقي.
فأي شيءٍ كانَ يملكُ أبو ذر من العلمِ ووسائل الدعوة، وهو يُعَد حديثَ عهدٍ بالإسلام؟ لكن وَضعَ وصيةَ الرسول صلى الله عليه وسلم نُصْبَ عينيهِ حين قال له: «هل أنت مُبلغٌ عني قومَكَ؟ عسى اللهُ أن ينفعَهُم بكَ ويأجُركَ فيهم؟» رواه مسلم.
إن غفارَ التي ينتسبُ لها أبو ذر كانت من الشدةِ والبأس والقسوةِ ما جعلَها في طليعةِ القبائل القائمة على الغارة والنهبِ والسلْبِ، وأبو ذر نفسُه يقول: حين سألني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أنْتَ؟»، قلتُ: من غفار، قال: فأهوى بيدِهِ فوضَعَ أصابِعَهُ على جبهتِه، فقلتُ في نفسي: كرِهَ أَنِ انتميتُ إلى غِفار! رواه مسلم
حتى إذا قذفَ اللهُ الإسلامَ في قلب أبي ذر وقومِه تغيرتِ الحالُ، وصنعَ الإسلامُ من أبي ذر نموذجاً للزهدِ والعفافِ، يتورعُ عن جمعِ المالِ وكنزِه وإن كان حلالاً، وأنى له أن يفكرَ في أخذِ الحرامِ أو الاعتداءِ على حقوقِ الآخرين؟
وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى رسول الله، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم (عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم). البخاري
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحب الله ورسوله حبا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي : يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر) فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي : (أنت مع مَن أحببت) [أحمد]، وكان الرسول، يتفقده (يسأل عنه) إذا غاب.
وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي طالب : وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل (من العلم) خير له من ألف ركعة تطوعًا.
وكان رضي الله عنه زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو ذر يمشى في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام) الترمذي.
وكان أبو ذر يقول: قوتي (طعامي) على عهد رسول الله صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. ويقول: الفقر أحب إلي من الغنى. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة (بستانًا) كما اتخذ فلان وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز (اسم مكيال) من قمح. وكان يحارب اكتناز المال ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛ لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له: لا حاجة لي في دنياكم.
وعندما ذهب أبو ذر إلى الربذة وجد أميرها غلامًا أسود عينه عثمان بن عفان
رضي الله عنه، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت، فإن رسول الله أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلى أبو ذر خلفه.
وظل أبو ذر مقيمًا في الربَذَة هو وزوجته وغلامه حتى مرض مرض الموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فقال أبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا ما أمر به، فمر بهم عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، فصلى عليه، ودفنه بنفسه.
وكان ذلك سنة (31هـ) وقيل: سنة 32 هـ.