شوف تشوف

الرأي

من الطب إلى الفلسفة

بقلم: خالص جلبي

عندما شكت زوجة الطبيب من الصداع المستمر أشار عليها بتناول بعض المسكنات، والأطباء في العادة أقل الناس اهتماما بعائلاتهم صحيا، وإذا أصبحوا مرضى كانوا عموما من النوع غير المريح، وإذا أصيب أحدهم بنوبة سعال ظن أنه سرطان رئوي، أو إذا عانى من عسرة هضم شك على الفور بقرحة متقدمة أو ورم مستفحل، فدماغهم يجري بسرعة نحو أشد الأمراض فتكا وسوءا، وأكثرها قتامة وشؤما، ولا غرابة فهم ينامون على موت دماغ في العناية المشددة، أو ينهضون في ظلمات الليل على كارثة جراحية من وراء حادث مروري، أو طلقة (خردق) ثقبت العين ودمرت الدماغ وقذفت بصاحبها إلى سكرات الموت، أو يستيقظون على مريض يحشرج من احتشاء قلب. والذي حدث مع زوجة الطبيب أنها استمرت تشكو من الصداع الذي يكاد يفجر رأسها، ثم لاحظ الجراح على زوجته أنها بدأت تتغير في تصرفاتها، فلقد أصبحت أكثر عدوانية فهي تغضب مع كل تصرف، كما اتسمت تصرفاتها بالغرابة، فطبق (السلطة) كان مترعا بالملح وبشكل يومي، فصرخ الزوج في وجهها: «لاشك أنك جننت وهناك شيء ما في رأسك؟». وعندما استلقت الزوجة تحت جهاز التصوير الطبقي المحوري (CT -SCAN)، أظهرت الصورة ورما متقدما في الفص الدماغي الجبهي المسؤول عن الشخصية، الذي كلفها في ما بعد شلل الأطراف الأربعة.
ما السبب على وجه التحديد الذي كان خلف التحول السرطاني عند هذه السيدة الشابة؟ إننا كأطباء لا نملك الرد على هذه النقطة. وهذا يفتح الباب على فلسفة الطب، فلماذا تتمرد الخلايا على النظام العام، فتعلن ثورة على التناسق الخلوي في البدن؟ ولماذا تنفجر أمراض بعينها بين الحين والآخر على النحو الذي عرض في فيلم «الانفجار الفيروسي OUTBREAK»؟ بل ما هي حكمة المرض والمعاناة في هذا الوجود؟ لماذا كنا مطوقين بالمرض والعجز والشيخوخة؟ وما الذي يجعل الخلايا تغير سيرتها في السرطان، فتتحول من خلية عادية إلى خلية ورمية حميدة أو خبيثة؟ لا يوجد عند الطب إجابة واضحة ومحددة، إذ لو كانت الإجابة موجودة لسار الاتجاه في طريق العلاج، وهذا التحدي مضاعف الوجه، فلا يعني قهر بعض الأمراض أن المعركة انتهت معها إلى الأبد، بل هناك إمكانية أن تغير طبيعتها فتقوم بهجمة جديدة كما هو الحال الآن مع بعض الزمر الجرثومية التي كانت طيعة في ما سبق، فأصبحت جسورة معندة تعيث في البدن فسادا. والطب يتفاءل اليوم أنه بعد مشروع (فك لغز الجينات البشرية – HUMAN GENOM PROJECT)، أنه قد يصل إلى الإجابة عن بعض الأسئلة المفتوحة حتى الآن، ونظرا لأن الكروموسومات الموجودة داخل نواة الخلية التي يبلغ عددها 23 زوجا تحوي حوالي ثلاثة مليارات من الجينات، فإن فك الشيفرة قد يتطلب مسيرة عقد أو عقدين من السنوات القادمة، والعمل اليوم قائم على قدم وساق في هذا المشروع الذي هو أعظم من مشروع (ناسا) لارتياد الفضاء، وبفهم الشيفرة الوراثية سوف نشق الطريق لأشياء في غاية الخطورة، أبرزها المسؤولية الفعلية للجينات ووظائفها على وجه الدقة، بل وربما أيضا السر خلف حياتنا القصيرة، ففي الوقت الذي ينضج فيه الإنسان تتخطفه يد الموت.
هل يا ترى أن الجينات بُرمجت بحيث إنها تحقق انقساما خلويا محدودا يقف بعد عدد معين؟ ثم كيف يعمل الاستقلاب في الجسم؟ فبدننا ينمو وينهدم في اللحظة الواحدة، وتموت الملايين من الخلايا مع كل ثانية، ولكن الجسم يقوم بعملية الترميم التي لا يخطئها، إلا أن محصلة عملية الهدم – البناء تمشي مع الزمن ضد الجسم، بحيث تسلمنا هذه العملية في النهاية إلى يد الموت. إن الجدلية في هذا الحقل، هي أن الكشف العلمي عن أمر يقود ليس إلى تقلص المجهول، بل زيادته وبشكل تسارعي، فنحن عرفنا في مرحلة أن الدم سائل متجانس أحمر اللون يمشي في العروق، دون أن نتبين لماذا كان الدم أحمر، بل لماذا كان الحليب أبيض والسائل المراري ذهبيا والبول أصفر والغائط بني اللون؟ ثم اكتشفنا أنه يحوي كائنات محددة، هي الكريات الحمراء والبيضاء والصفيحات الدموية، وحتى الكريات البيضاء فصائل وأنواع، ثم اكتشفنا أن الكرية الحمراء التي تشبه رغيف الخبز، تقوم برحلة في مسارات البدن تبلغ 1500 دورة يوميا ولمدة أربعة أشهر (712 يوما)، تقطع فيها ما يشبه رحلة ماجلان في دوران الكرة الأرضية، وتتخرب يوميا 240 مليار كرية ليتجدد بدلا عنها الرقم نفسه، بل وقد تصعد الطاقة الإنتاجية إلى 7 ـ 8 أضعاف في الأزمات، ثم اكتشفنا أن تركيب الكرية الحمراء يشبه الخرسانات المسلحة؛ فالهيموغلوبين (البناء البروتيني الداخلي) مسلح بذرة حديد. ثم اكتشفنا أن الدم يقوم على توازن دقيق بين التخثر والتميع في آليات رهيبة لحفظ توازن الجسم، ضمن مجموعة ضخمة من آليات التوازن، كما في التوازن القلوي ـ الحامضي، والتوازن السكري والهورموني والمعدني والحروري والمائي و(التصنيع والاستهلاك).
وعند دراسة العوامل التي تؤثر في تخثر الدم تلاحقت الاكتشافات، وهكذا فمع كل دخول إلى مستوى جديد نرى أن الفضاء يتسع بشكل لا يخطر على قلب بشر، فمع كل حركة اكتشاف نكتشف جهلنا بدون حدود، وإن كنا نزداد علما، فهذه هي جدلية الوجود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى