إعداد وتقديم- سعيد الباز
لا يمكن فصل الحياة الأدبية والفكرية في كلّ الأحوال عن الطبيعة الإنسانية، سواء كان الأمر يتعلّق بالصداقة أو العداوة، الاتفاق أو الاختلاف.. لكنّ لا يمكن إغفال دور الصداقات الأدبية في التأثير وتبادل الرؤى والتصورات، وما تشكّل من دعم وإسناد لحياة الكُتّاب في مواجهة مغامرة الكتابة والإبداع.
في المقابل لا يمكن تجاهل ما للخصومات الأدبية والفكرية من أهمية في إذكاء الساحة الأدبية بروح النقاش المثمر والخلّاق. إنّهما، في النهاية، مجالان يحكمهما معا الشرط الإنساني، الذي غالبا ما يُفضي إلى إنتاج الأفكار أو يمثل محفّزا يُثري الحياة الأدبية والفكرية.
كاساريس وبورخيس.. قصّة تلميذ أبدي
اشتهر الكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس (1914- 1999) Adolfo Bioy Casares بروايته «اختراع موريل»، التي ألقت الضوء على روائي أرجنتيني كان له تأثير واسع في بلده وفي أمريكا اللاتينية.
ينتمي أدولفو كاساريس إلى عائلة ميسورة جدا في العاصمة بيونس أيريس وكان لقاؤه بخورخي بورخيس في بيت صديقة والدته الكاتبة الأرجنتينية فيكتوريا أوكامبو بداية علاقة أدبية وصداقة روحية ستجمعهما طيلة حياتهما رغم فارق السنّ بينهما. كان بورخيس، بحكم سنه، يبدو كما لو أنّه المعلم والأب الروحي لأدولفو كاساريس، لكن الحقيقة غير ذلك. لقد حدث بين الكاتبين تفاعل مثير، إذ اشتركا في تأليف أكثر من خمسة عشر كتابا، واختلفا في الوقت نفسه في أسلوب الكتابة ومنظورهما إلى الحياة والوجود.
يقول بورخيس عن صديقه أدولفو كاساريس مقرّا بفضله: «كان أدولفو بيوي كاساريس، دون أن يظهر ذلك، هو المعلم، معارضا ذوقي تجاه ما يثير العواطف والأشجان، والميل إلى الحكم والأمثال والباروك، كان يقودني خطوة بخطوة باتّجاه الكلاسيكية». أمّا أدولفو كاساريس فيقول عن بورخيس ودوره في تفتق موهبة الكتابة لديه واستفادته من خبرته وتجاربه في الكتابة: «كل تعاون مع بورخيس يعادل سنين من العمل». نال أدولفو كاساريس شهرة كبيرة بفضل روايته العجائبية «اختراع موريل» التي وضعته في مصاف الكتاب الكبار في الأرجنتين، وكانت بحق رواية سبقت زمنها بكثير، على مستوى موضوعها وبنائها الروائي الصارم والمحكم، إضافة إلى أسلوبها ولغتها الروائية الموضوعية والخالية من أيّ نبرة عاطفية حيث يتحول السرد إلى تقرير مختصر للأحداث والوقائع. ففي المقدمة التي وضعها بورخيس للرواية يصفها بقوله: «… لقد ناقشت مع صاحبها تفاصيل الحبكة، وأعدت قراءتها، لا يبدو لي عدم دقة ولا مغالاة منّي في أن أصفها بالكمال».
ورغم حجم الرواية الصغير أتيح لها أن تعتبر عملا روائيا جديدا بكل المقاييس، كان له التأثير الكبير على الروائيين الجدد في أمريكا اللاتينية، وأسهمت في تطور الرواية في أمريكا اللاتينية وامتلاكها لخصوصيتها.
جمعت رواية «اختراع موريل» بين الحبكة العاطفية التي تتمثل في حب السارد للمرأة الغامضة فوستين، والحبكة البوليسية في بحث السارد عن سر ظهور الأشخاص الغامضين في الجزيرة المنعزلة والكشف عن اختراع موريل، والحبكة الفلسفية في تناول موضوع الخلود والبحث عن الأبدية والخلود، وبذلك تشبه رواية «روبنسون كروزو» أو «حي بن يقظان» من حيث الإطار الفلسفي. ويمكن تصنيف الرواية، أيضا، ضمن رواية الخيال العلمي باعتبار أنها تتناول اختراعا جديدا لعالم يدعى موريل استطاع أن يخترع جهازا يصور حياة أشخاص في جزيرة منعزلة لمدة أسبوع ويستمر في بثها على الدوام بشكل مجسّم كما لو كانت حقيقية، فيسمّي موريل الجزيرة الجنة والجهاز الذي يبث الصور بالأسطوانة الأبدية. يتم الكشف عن اختراع موريل عن طريق السارد الذي لا نعرف اسمه أو أي صفة له، هو مجرد هارب ومطارد محكوم عليه بالمؤبد لا نعرف أيضا أيّ شيء عن الجريمة التي ارتكبها، لجأ إلى الجزيرة المنعزلة للاختباء فيها، فيبدأ في كتابة تقرير هو متن الرواية يتخلله بين الحين والآخر تدخل الناشر أسفل الصفحة أو المخترع موريل في أوراقه الصفراء التي خلفها. تعد الرواية، أيضا، سابقة لعصرها، فهي تتناول علاقة الصورة بالعالم الواقعي، أو على الأصح، كما هو الأمر في عصرنا الراهن، علاقة الواقع بالعالم الافتراضي. نال أدولفو كاساريس جائزة «سرفانتيس» تقديرا لدوره في إغناء الأدب المكتوب باللغة الإسبانية ودوره الهام في تطويره وتجديده، لكن الحضور الطاغي لبورخيس وشهرته العالمية جعلاه يبدو كتلميذ أبدي لمعلمه متواريا إلى الخلف ينوء تحت ظلاله الكثيفة… إلا أنّ صداقتهما ظلت نموذجية يطبعها التفاهم رغم اختلافهما في تصورهما ومفهومهما في الكتابة والإبداع الأدبي، فضلا عن فارق السنّ بينهما وشهرة كل واحد منهما.
محمد شكري ومحمد برادة.. أواصر صداقة مثمرة
كان للصداقة التي جمعت الكاتبين محمد شكري ومحمد برادة، رغم مساريهما المختلفين في الحياة والكتابة الأدبية، دور كبير في تطوّر عملهما الأدبي واستلهام آفاق جديدة في الكتابة والإبداع، عبّرت عنها رسائلهما المتبادلة التي تكشف عن أوجه هذه الصداقة المثمرة، المنشورة في كتاب «ورد ورماد».
جاء في إحدى رسائل محمد شكري إلى محمد برادة: «أكتب لك من فراشي. دخلت إلى شقتي في الخامسة مساء، الساعة الآن التاسعة. تعشيت جزراً وبصلاً وخرشوفاً وزيتوناً وجبناً عربياً. أشرب ما تيسر، أستمع إلى برامز.
انتهيت منذ لحظة من مراجعة قصتي المستحيل. كتبتها عام 67 وأعدت كتابتها عام 70. أستمع الآن إلى ليو فرّي. الفأر الذي أتحدث عنه هنا كان يريد أن يكون صديق محمد زفزاف. كنت أسكن منزلاً أرضياً في طريق رابليه. كان زفزاف يحب النوم في المطبخ الكبير. الفأر يحب أن يلعب الاستغماية فوق وجه زفزاف النائم. ضاق زفزاف بهذه الغميضة. ينهض مراراً صارخاً طالباً مني أن أقتله. أمسكت هراوة صغيرة واختبأت له في ركن من المطبخ والنعاس يغلبني. زفزاف نائم وعلى وجهه فوطة. ظهر الفأر الصغير محدقاً فيّ بلا خوف. لم أستطع قتله. شيء نحيل! كان جميلاً ومسكيناً. لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك! فقد كفّ عن المجيء… ربما أدركته حكمة الفئران.
أنا ماض في استنساخ القصص الست مضروبة على الآلة، اخترت 18 قصة، الأخرى مزقتها. اثنتان منها نشرتا: «بائع الكلاب» في مجلة الآداب عام 69 و«الجنين لم يتحرك» في مجلة 2000، أيضاً مزقت رواية «الليل والبحر» التي كتبتها سنة 66، احتفظت بفصل منها، سأحوله إلى قصة قصيرة بالعنوان نفسه. هل يتنكّر الإنسان حتّى لنفسه؟ نعم، وحتّى الموت!
إنني أطهر نفسي. الكتب تنام معي. عادة اكتسبتها منذ سنين. القراءة والكتابة في الفراش. «مذكرات اللص» لجان جنيه أعيد قراءتها بالفرنسية والإسبانية. كذلك أقرأ «تاريخ العلم» لجورج ساتورن، «شعراء المدرسة الحديثة» لروزنتال، مجلة عالم الفكر العدد الخاص بالزمن. و«قصائد حب على بوابات العالم السبع» للبياتي. غارق في القراءة، لكن الإحساس بالكتابة لم يغزني بعد».
أمّا محمد برادة فيكتب عن هذه الصداقة: «أول مرة تعرفت فيها على محمد شكري، حين التقيته خلال عطلة صيف 1972 بشارع باستور بطنجة… كان يمسك برسن كلب كبير ويمشي بتلقائية وسط زحمة الناس. كنت قد قرأت له نصوصا بمجلة «الآداب» وسمعت أخبارا مليئة بالمبالغات عن حياته الخاصة. تواعدنا على اللقاء في المساء. ولفت نظري خلال محادثتنا التي امتدت إلى ساعة متأخرة من تلك الليلة، أنّ شكري أبعد ما يكون عن الصورة التي يرسمها له المعجبون. كان رزينا في حواره عقلانيا في حججه، جريئا في طروحاته ونقده. لمّا يقرأ لم يكن مشدودا إلى «أسطورة» ماضيه. بل كان مفتح العينين على حاضره. يعيش أقرب ما يكون إلى الواقع المعقّد المتسارع في تحولاته وأعجبني أنّه لم يكن يلغي ذاته وهو يتحدث أو يختبئ وراء العبارات الأدبية التي يلجأ إليها كثير من المثقفين. منذ ذلك اللقاء، أخذت أواصر الصداقة تنتسج بيننا واقتنعت بأنّ تجربة شكري في الحياة والكتابة تستحقّ أن تُعرف وأن تُقرأ لأنها تمتح من نسوغ غير مألوفة في كتابات وتجارب زملائنا الآخرين. لذلك بادرت سنة 1977 إلى نشر فصل من خبزه الحافي بمجلة «آفاق» التي كنت أرأس تحريرها واستدعيته للقاء الرواية العربية بفاس (1979) وحملت مخطوطه «الخبز الحافي» إلى دار الآداب ببيروت التي اعتذرت عن نشرها لجرأتها. الأهم من كلّ ذلك أنّ الحوار امتد بيني وبين شكري خلال اللقاءات ثم عبر الرسائل لأنني وجدت فيه محاورا قريبا إلى النفس. متّصفا بالتلقائية والصراحة، وكان يخيّل إليّ، ولعلي كنت مخطئا، أنّ شكري يحتاج إلى من يذكّره بضرورة الاستمرار في الكتابة لمقاومة تفاهة المحيط الذي كان يعيش فيه. لكنني، وأنا أعيد قراءة الرسائل الآن، وجدت أنّ إلحاحاتي هي أيضا نوع من التذكير لنفسي بأنّ الكتابة أهمّ من النشاطات السياسية والثقافية التي كنت مشدودا إليها».
ماركيز ويوسا.. صداقة أفسدتها السياسة
تعتبر العلاقة الإنسانية والأدبية بين الروائيين من أمريكا اللاتينية غابريال غارسيا ماركيز وماريو بارغاس يوسا أكثر من مثالية. فقد كان التقدير والإعجاب متبادلين بينهما حدّ تقديم ماريو بارغاس يوسا أطروحة الدكتوراه حول الأعمال الروائية لغابريال غارسيا ماركيز، وإضافة إلى كونهما حصلا على جائزة نوبل للآداب، فهما أيضا رائدان للاتجاه المسمى الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية.. لكن وأثناء تقديم العرض الأول لأحد الأفلام في المكسيك سنة 1967، تقدم ماركيز لعناق صديقه يوسا، إذ بهذا الأخير يوجه إليه لكمة قوية طرحته أرضا. بعد هذا الحادث، الذي أصبح قطيعة تامة بين الصديقين، كثرت التأويلات فهناك من أرجعها إلى الاختلافات الإيديولوجية بعد تراجع يوسا عن توجهه اليساري إلى معاداته للنظام الكوبي فيما ظل ماركيز صديقا لفيديل كاسترو ووفيا لانتمائه اليساري. رواية أخرى ترجّح أنّ الأمر يعود إلى الفترة التي كان فيها الخلاف مستعرا بين يوسا وزوجته، والزعم بأنها طلبت مشورة ماركيز الذي نصحها بطلب الطلاق، ما اعتبره يوسا خيانة من قبل صديقه. الغريب أن الكاتبين الكبيرين المتخاصمين اتفقا على لزوم الصمت حول هذا الحادث. يقول يوسا: «أنا وغارسيا ماركيز أبرمنا اتفاقاً بألا نغذي الإشاعات حول علاقتنا، مات وهو متمسك بوعده وسأموت وأنا متمسك بوعدي أيضاً». في أحد الحوارات يذكر ماريو بارغاس يوسا هذه المرحلة الذهبية لأدب أمريكا اللاتينية: «كان وقتا رائعا، حقبة اكتشفت فيها أوروبا والولايات المتحدة واكتشف فيها العالم أدب أمريكا اللاتينية، الذي كان موجودا منذ فترة طويلة ولكنه كان حبيسا. لم يغادر أمريكا اللاتينية. وفي وقت واحد، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تمّ اكتشاف أدب أمريكا اللاتينية، وحتى أمريكا اللاتينية نفسها بدأت في قراءة وإعادة اكتشاف مؤلفيها، مثل خورخي بورخيس… خاصة لأننا اكتشفنا أنّ لدينا هوية أمريكية لاتينية مشتركة. عندما كنت في بيرو، لم أكن أعرف ماذا يكتب المرء في كولومبيا والإكوادور وشيلي، باستثناء ربما بابلو نيرودا. لم تكن لدينا أيّ فكرة ماذا يعني أن تكون أمريكيا لاتينيا. كانت المرة الأولى التي شعرت فيها بهذا الشيء، عندما كنت أعيش في باريس. وذلك عندما بدأت في قراءة أدب أمريكا اللاتينية. كان من الملهم بأننا من المكسيك والأرجنتين وبيرو، ولدينا نفس الجذور». معترفا في الأخير بالأسباب الحقيقية لتوتر علاقته بغابريال غارسيا ماركيز: «صداقتنا وأخوتنا تحطمت بفعل الخلافات السياسية. كما هو الحال دائما. حيث بدأت الانقسامات، المشاجرات. ولكن للحقيقة: كانت هناك صداقة نجت من هذه الخلافات السياسية».
سارتر وكامو.. بين الأمل واليأس
كان اللقاء الأوّل بين جان بول سارتر وألبير كامو واعدا بصداقة كبيرة، وبدا مبشرا بظهور كاتب وجوديّ لامع، ما جعل سارتر يحتضنه هو وزوجته سيمون دو بوفوار ويعدّه فردا من أفراد العائلة. غير أنّ صدور كتاب «الإنسان المتمرد» لألبير كامو حيث نأى بنفسه عن التيار الشيوعي الستاليني الذي كان مهيمنا على الساحة الفكرية في فرنسا، وسارتر نفسه كان من أقطابه.. هاجم أتباع سارتر ألبير كامو بعنف شديد ولم يتورع سارتر نفسه في الكتابة إليه: «لقد كانت شخصيتك تمثل الأمل… اليوم أصبحت تمثل اليأس». بعد وفاة كامو بشكل مفاجئ إثر حادثة سير، أقدم سارتر على تأبين صديقه القديم، ما اعتبر نموذجا لصدق المشاعر وإظهار النبل الإنساني: «مضت ستة أشهر، كما مضى الأمس، كان فيها كامو ممزقا وسط تناقضاته -التي علينا أن نحترمها-واتخاذه للصمت خيارا. في العادة وقبل أن يتحدث لم نكن نجرؤ على المخاطرة بتوقع ما سوف يقوله. كنت أعتقد أنه مثل عالمنا سوف يتغير، لكن هذا الاعتقاد كان كافيا ربّما كي يظل وجود ألبير كامو حيا وذكره قائما. لطالما كنت أنا وهو مختلفين وعلى خلاف أحيانا. رغم أننا لم نلتق كثيرا، إلا أن هذا الخلاف لم يكن غير طريقة أخرى للعيش مع بعض، دون أن نحجم -إذا ما التقينا- عن النّظر إلى بعضنا وسط هذا العالم الصغير الممنوح لنا. هذا لم يكن ليمنعني من التفكير فيه، عبر استشعار نظراته من خلال صفحات الكتب أو الجرائد التي يطالعها، كأني به يقول: «ماذا تقول عن كل هذا؟ ماذا تقول عنه في هذه اللحظة؟».
أحيانا، ومن خلال الأحداث التي مرّت، اعتبرت صمته متعقلا، وأحيانا أخرى من خلال مزاجي الخاص بدا لي ذلك الصمت مؤلما. ربما هذا ما يمتاز به كامو… ويظهر كل ذلك بشكل «إنساني بحت». سواء كنّا ضدّ أفكاره أو معها، خصوصا تلك التي اكتشفناها في روايته «السقوط» -التي أعتبرها الأجمل والأقل استيعابا في رأيي من طرف القرّاء- لكنها تعتبر دائما مغامرة مختلفة عمّا عهدته ثقافتنا عبر أفكاره. هي حركة نحاول التخمين في مراحلها لغاية مداها النهائي. يمثل كامو في هذا القرن، باعتباره أحد المواجهين للتاريخ، الوريث الأبرز لطابور طويل من الواقعيين، ممن شكّلت كتاباتهم -على الأرجح- أصالة الكتب والرسائل الفرنسية».
محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي.. من الإعجاب إلى الخصومة
ابتدأت العلاقة بين جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري، في أول أمرها، بصداقة وتقدير كبيرين للمشروع الفكري لهذا الأخير (نقد العقل العربي)، حيث يقول عنه جورج طرابيشي: «إنّ هذا الكتاب ليس فقط يثقّف بل يغيّر، فمن يقرؤه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه». لكن الإعجاب سرعان ما تحول إلى اختلاف عميق دفع طرابيشي إلى الانكباب على إعادة دراسة التراث من وجهة مغايرة للجابري عبر مشروعه الفكري (نقد نقد العقل العربي). ففي أحد الحوارات يوضح جورج طرابيشي أسباب الاختلاف والخصومة الفكرية بقوله: «إن نظرية الجابري تقول إن العقل العربي الإسلامي لم يتخلف ولم يغرب ويأفل وما استقال إلا نتيجة غزوة خارجية جاءته من رياح «الهرمسية» و«الغنوصية» و«الأفلاطونية المشرقية». ونظريتي المضادة تقول إن هذا غير صحيح وإنه لا يمكن للعقل، أي عقل، أن يغزى من خارجه وأن يجبر على الاستقالة من خارجه إذا لم تكن له القابلية الذاتية، فالعقل عندما يستقيل فإنما يستقيل نتيجة الآليات الداخلية أولا. فالجابري لم يتوقف إلا عند المظاهر الخارجية معتبرا أنها هي التي أجبرت العقل العربي الإسلامي على الاستقالة ولاسيما في طبعتيه المشرقية والشيعية مشيرا إلى أن العرفان الشيعي هو أحد مظاهر استقالة العقل الإسلامي، وهذا المنحى في التعليل لاستقالة العقل الإسلامي هو ما فسرته في الجزء الرابع من مشروعي. وبالتالي، وبالنظر لما بيّنته من أنه لم يكن هناك غزو خارجي فإن الجزء الخامس والأخير جاء ليتناول هذا الانقلاب الكبير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، وفيه أتناول الآليات الداخلية لاستقالة العقل في الإسلام، وهنا لم أجد عند الجابري شيئا يقوله لأنه ما دام حمّل كل المسؤولية للخارج فإنه لم يبق لديه ما يقوله عن الداخل وبالتالي لم أجد شيئا أناقشه فيه في هذا المجال فكتبت معظم فصول الكتاب ولم أذكر الجابري إلا في حوالي أربع مناسبات لأن إشكاليته في الاستقالة بالعوامل الخارجية للعقل في الإسلام توقفت عند هذا الحدّ. لهذا كان هذا المجلد الأخير تتويجا لرحلتي النقدية مع الجابري دون أن يكون تحت عنوان «نقد نقد العقل العربي». لأنه في نظري تجاوزٌ لنظرية الجابري، وهو يصدر للأسف والجابري قد رحل عنا، وربما حسنا فعلت عندما أخرجت هذا الجزء من مشروع «نقد نقد العقل العربي» وجعلته كتابا قائما بذاته».
لكن جورج طرابيشي، رغم الاختلاف الكبير، يقرّ في الوقت ذاته باستفادته من محمد عابد الجابري وفضله عليه: «الجابري ساعدني على تحقيق نقلتين في حياتي الفكرية: الأولى أنه نقلني من الايدولوجيا إلى الإبستومولوجيا، أي من الكلام في الأفكار بإيديولوجية معينة إلى علم معرفة المعرفة. وثانيا ورغم أني خريج اللغة العربية، وبالتالي فإن فكري التراثي كان متجها إلى الأدب أكثر منه إلى الفكر الأصولي والفكر الفقهي وحتى الفلسفي، فإنه أجبرني على أن أعيد بناء ثقافتي التراثية. وقد قرأت من أجل ذلك ما يزيد عن ألف كتاب في التراث العربي وحده وما زلت غارقا فيه إلى اليوم. وقد حاولت أن أقرأ كل ما كان في متناولي من الفلسفة العربية الإسلامية ثم انتقلت من الفلسفة إلى علم الكلام وهو حقل في الإسلام أوسع بكثير من حقل الفلسفة… لقد جاءت «المرحلة الجابرية» في مشروعي الفكري المناهض لمشروع الجابري والتي سميتها «نقد نقد العقل العربي» والتي وصلت حتى الآن أربعة أجزاء هي «نظرية العقل العربي» و«إشكاليات العقل العربي» و«وحدة العقل العربي» و«العقل المستقيل في الإسلام» لتؤسس مرحلة جديدة من حياتي الفكرية». إضافة إلى ذلك يعترف جورج طرابيشي بالإسهامات الفكرية لمحمد عابد الجابري بقوله: «إذا كانت للجابري من مزية فهي أنه فتح المجال للعمل البحثي في البحث عن مفهوم العقل في التراث الإسلامي وساهم بحفرياته النقدية في تقصي أصول هذا العقل ومساره التاريخي ومآلاته ولكن يبقى مجهوده كمجهودي وكأي مجهود آخر مجرد مساهمة».
رف الكتب
تحت أكثر من سماء
لم يكن الشاعر الراحل أمجد ناصر، فقط، شاعرا وكاتبا صحفيا لامعا، بل كان، إضافة إلى ذلك، كاتب رحلات مميزا. في كتابه «تحت أكثر من سماء» أفرد ناصر فصلا مطولا عن المغرب تحت عنوان «مجيء الزمن المغربي»، تناول فيه العديد من المظاهر الحضارية المميزة للمغرب من خلال أساليب العيش ونمط الحياة، إضافة إلى تطرقه المستفيض للإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخصوصا علاقته الثقافية بالمشرق الموسومة في الكثير من الأحيان بالتناقض وسوء الفهم.
في هذا الفصل تحدث أمجد ناصر عن الطبخ المغربي بالكثير من التحليل للعناصر المشكلة وتميّزه وخصوصيته مقارنة بالمطابخ الأخرى، مظهرا حسن ذوقه واطلاعه الواسع على هذا المجال مع القدرة على التقاط التفاصيل:
«… وإلى بائعي الحلزون هناك بائعو الشاي الذين يشبهون نظراءهم المصريين الذين تجدهم قرب المرافق العامة والمناطق السياحية أو على ضفة النيل. سوى أنّ المغاربة يشربون، عموما، الشاي الصيني الأخضر مع النعناع ويسمّونه «أتاي»، أما الشاي الأحمر أو الأسود الذي يشربه المصريون وسائر المشارقة فليس شائعا. الشاي المغربي أصفر اللون، حلو المذاق، عابق برائحة النعناع الفاتنة، يشرب في كؤوس صغيرة، ملونة، غالبا، وله عادات وطقوس في السكب والشرب ليس السوق مجالها… كانت رائحة النعناع تنعش هواء «السويقة» وتستخفّه وليس ذلك بسبب أباريق الشاي الصفراء التي تغلي على المواقد… ولكن بسبب حزم النعناع، بل أكوامه، التي تبيعها نسوة في ركن من السوق. فلم أر كمية من النعناع مشابهة لهذه في أيّ سوق خضر عربية أخرى.
… الشارع الذي يقع فيه المطعم يتفرّع من شارع «أنفا»… لكن ما أن دلفنا قوسه الخارجي حتى انتقلنا من «حداثة المدينة» إلى عراقة المدن المغربية: فاس، مراكش… يبدو أن استخدام الفواكه واللوز مع «طواجين» اللحم والدجاج مشترك بين المطبخ الفاسي والمطبخ الأندلسي القديم. وقد هاجرت روائح الطعام ووصفاته وطرائق إعداده، على الأغلب، مع المهاجرين الأندلسيين واختلطت بالطبخ المغربي. فاستخدام البرقوق والسفرجل والإجاص والتمر والتفاح إضافة إلى العسل مع أكلات يدخل فيها لحم الضأن أو البقر أو الدواجن غير شائع في المشرق العربي. وباستثناء مطبخ مدينة حلب السورية، تحديدا، فإن فكرة دخول الفاكهة على الطبخ المشرقي مستهجنة تماما. إذ كيف تستقيم حلاوة الفاكهة و«العسل»! مع اللحوم المطهوة بالبصل والثوم والمطيبة بالتوابل؟ وكيف يكون الطعم، ناهيك عن النكهة، الذي ينتجه اختلاط هذه العناصر المتنازعة في مادتها ومذاقها؟
الجواب، من خلال التجربة: طعم ونكهة مدهشان.
فلا الفاكهة الطازجة أو المجففة تحتفظ، بعد طهيها باللحم والتوابل بطعمها الأصلي ولا اللحم يظل محتفظا بطعمه ومقامه المتعالي الذي يبدو ذكوريا قياسا إلى الأنوثة والرقة الثاويتين في الفواكه. ذكورة تقهر الخضر والحبوب ولكنّها ترعوي أمام الفاكهة ! ففي «الطجين» الذي يؤكل باليد (بل بثلاثة أصابع من اليد اليمنى)، لا بالملعقة والشوكة، تبوح المواد بمكنون خواصها بعضها لبعض وتتشرّب كلّ مادة نسغ ونكهة المادة الأخرى، خصوصا إذا تعهدته أيد خبيرة… ذقتُ، لأوّل مرة، «البسطيلة» وطجين الدجاج بالزيتون، وإذا كان ليس مستهجنا لنا، نحن المشارقة، أن يُطهى الدجاج بالزيتون (رغم أننا لا نفعل ذلك) فإنّه من الصعب أن نتصور إضافة السكر والقرفة إلى فطيرة محشوة بلحم الدجاج!
وهذه هي «البسطيلة»… التي عددتها أنا أطرف الفطائر طراً، ليست مجرّد فطيرة محشوة بلحم الدجاج فقط. فهي خلطة… داخل رقائق عجينة خاصة تُشوى بالفرن ويذر عليها السكر الناعم بعد أن تُحمّر».
مقتطفات
الأجندة الخفية للعولمة
يقدم المؤلف دينيس سميث كتابه بقوله: «على مدار العقود القليلة المقبلة، سيُماط اللثام عن (الأجندة الخفية للعولمة) لتتكشّف عمّا هي عليه الآن، وعندما تصبح أسئلتها المحورية ظاهرة لكل شخص، فإننا قد نجدها عندئذ مجابة برياح لا تشتهيها السفن. وعلى ذلك، إذا أردنا اقتناص الفرصة لنضمن لمصالحنا الاحترام لا التجاهل، لابد من التعاطي مع تلك المصالح بميزان العقل البناء وبروح ناقدة. ولابد كذلك من الاعتراف بوجود الأجندة الخفية للعولمة، علاوة على اكتساب فهم أرحب لمفهوم العولمة وطبيعة عملياتها.
يعرض هذا الكتاب «منحى ثلاثيا» للعمليات التاريخية التي تشكّل الأجندة الخفية للعولمة التي إن استمرت على دربها الحالي لحُقّ لنا أن نتوقع عواقب وخيمة مدمرة إبان انتصاف هذا القرن». بهذا التحذير على ظهر غلاف الكتاب يطرح دينيس سميث موضوع كتابه، ويقدّم لنا، من خلال فصوله، الجوانب الخفية لنظام العولمة، وينطلق معنا بداية من أواسط القرن العشرين والتحولات التي شهدها إلى أواسط القرن الحادي والعشرين حيث يتوقع دخول العالم في صراعات محفوفة بالمخاطر، يقول: «إذا لم تغيّر العولمة اتجاهها وتطوي شراعها فإنّ الثمن المدفوع من صميم الحرية وحقوق الإنسان سيكون فادحا، وإذا مضينا على النحو الذي نعيشه الآن فستزيد نذر الشر التي قد تُفضي إلى نشوب حرب عالمية كبرى بحلول منتصف القرن، ومن ثمّ فإنّ الأمر برمته منوط بهوية الرابح في المعترك السياسي الذي تدور رحاه. وليس الصراع الأنكى هو ما يدور بين الغرب و«الإرهاب»، بل إنّه يدور داخل الغرب نفسه. فمن جانب، ثمّة مؤيدون للديموقراطية الراشدة التي تثمر عن منافع جوهرية، منها الكرامة والحرية والإنصاف في معاملة جميع المواطنين، وعلى الجانب الآخر، هناك أنصار للرأسمالية المتحررة التي تفرضها الدولة المهيمنة ضانة بفوائدها على الكثيرين. ولا شك أنّ محصلة هذا الصراع ستشكل صورة العالم لما بقي من القرن الحادي والعشرين».
ولتوضيح الأمر أكثر يضيف: «إلى أيّ مدى سيذهب الاتحاد الأوروبي مدافعا عن التزامه التاريخي بالجمع بين استجلاب الرخاء ومظاهره والوصول إلى جوهر راسخ لحقوق الإنسان التي تهتم أيّما اهتمام بالفقراء والمحرومين؟ وحتّام يتسامح مع عزم الولايات المتحدة نشر «منطق السوق» الغاشم في أرجاء المعمورة دون اكتراث لرغبات الآخرين، بمن فيهم حلفاؤهم الأقدمون؟ وكم تستغرق أوروبا من وقت لبناء قوتها العسكرية بالقوة التي تعادل قدراتها الاقتصادية الهائلة؟ وهل سيجد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أنفسهم في نهاية المطاف متدخلين في جوانب متعادية في صراعات مسلحة؟ أهو أمر غير معقول؟ لنذكر أنّه كان من غير المعقول أيضا أن نرى أوروبا في خضم عدوان عسكري بين فرنسا وألمانيا، بل ينسحب التفكير ذاته على عالم بدون الاتحاد السوفييتي، واعتناق الصين الفكر الرأسمالي. وعندما يكون الانقسام سيد الموقف في الغرب، ما الدروس المتمخضة عن صراعاته الداخلية لتتلقفها شعوب العالم الهائجة المائجة حيثما كانت في حواضر أوروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا؟ ولا يخفى أنّ تلك الشعوب هي صاحبة الكلمة في مستقبل يشاركوننا فيه، فإذا استسلمت الديموقراطية الراشدة في الغرب أمام الرأسمالية المتحررة والدولة المهيمنة، فهذا نذير برسالة مفادها: فروا من صفوف الحملان إلى صفوف الذئاب، استأسدوا على الآخرين، وتلكم كانت عقيدة هتلر. إذا حُرم أهل حواضر الدنيا خير الديموقراطية الرشيدة، واستذلهم منطق السوق العالمية، فالمآل بهم حتما إلى تغرير يتبعون به ذئابا جددا من فصيلة هتلر مبشرين بجدوى منطق الانتقام، كما حدث ذلك من قبل. وإذا تكرر مجددا فسنكون على شفا حرب عالمية ثالثة أحد أطرافها الولايات المتحدة التي تخشى ذلّ الانهيار الحضاري واستقواء جيرانها المتزايد في أوروبا وآسيا. إنّ فهم خبيئة المستقبل، ما لم نحل دون وقوعه، النظر إلى الأجندة العامة للعولمة بهدف استجلاء المعطيات والآليات التي تشكّل بنود هذه الأجندة الخفية».
متوجون
ريم نجمي في القائمة الطويلة لجائزة القلم الذهبي
حلّت رواية «العشيق السري لفراو ميركل» للشاعرة والروائية والإعلامية المغربية ريم نجمي، في القائمة الطويلة لجائزة «القلم الذهبي».
تكرم الجائزة الإبداع الأدبي الأكثر تأثيراً في الوطن العربي، وتدعم الكتّاب الذين يثرون الأدب العربي بأعمالهم الفريدة، مستهدفة تعزيز الثقافة الأدبية وتشجيع التميز والإبداع في عالم الكتابة.
وتضمنت القائمة 47 عملاً موزعة على عدة فئات رئيسية تكرّم الإبداع الأدبي والفني في العالم العربي، حيث جاءت فئة «الرواية» في المقدمة بواقع 30 عملاً، تليها فئة «الرواية المترجمة» بسبعة أعمال، ثم فئة «السيناريو» بعشرة أعمال. ومن المنتظر الإعلان عن الأعمال المرشحة ضمن القائمة القصيرة يوم 30 دجنبر المقبل، بعد أن أغلق باب التقديم في 30 شتنبر الماضي. وسيجري الكشف عن الفائزين وتوزيع الجوائز في حفل كبير يُقام في فبراير 2025.
تحكي رواية «العشيق السري لفراو ميركل» قصة يونس الخطيب، شاب ألماني من أصل سوري، يعاني من هوس العشق تجاه المستشارة ميركل. وبعد محاولته دخول بيتها لتسليمها رسالة حب، تلقي الشرطة القبض عليه، لكنّ ميركل تطلق سراحه بعد قراءة الرسالة التي تكشف عن مشاعر مشوشة. يونس، الذي يعاني من «أرتومانيا» (هوس العشق)، يعتقد أنّ ميركل سترتبط به ويقاطع خطيبته وعائلته، منتقلا إلى شقة صغيرة حيث يغرق في جنونه. بعد محاولة فاشلة لاقتحام منزل ميركل ثانية، يُودع يونس مستشفى للأمراض النفسية ويخرج بعد تحسّن حالته.. لكنّه مع قرار ميركل استقبال اللاجئين السوريين في ألمانيا، يشعر بالخيانة ويخطط لقتلها.
كتب الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد عن رواية «العشيق السري لفراو ميركل» قائلا: «… إن شكل أي رواية وتعدد لغات شخصياتها هو ما يجذبني فالموضوعات كثيرة، لكن كيف ينسج منها الكاتب عملا حافلا بالمعاني… في هذه الرواية القصيرة تنجح ريم نجمي ببراعة في تقديم هذا البناء. إن الصفحات القليلة مثلا من تعليقات الصحف على ما تفعله أنجيلا ميركل في الحياة السياسية، تجعلك تكاد تصدق أن الرواية حقيقية. تبدو الرواية بسيطة لأن وراءها جهدا رائعا في البناء، ونجحت ريم نجمى في هذه الرحلة الفنية التي تستحق الاحتفاء».