جلبير الأشقر
ما معنى أن تستفز رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، الحكم الصيني بزيارة جزيرة تايوان؟ وما معنى إحاطة الأمر بالكتمان، بحيث ظل الإعلام يتكهن بشأن الزيارة، ومن يرافق بيلوسي؟ وهل يُعقل أن تُعلن بيلوسي عن ذلك المشروع، قبل استشارة الدوائر المعنية بالأمن الاستراتيجي في واشنطن، كما بدا من الإشارات التي صدرت عن البيت الأبيض والبنتاغون، مُحذرة من خطورة المشروع ومُبدية شيئا من عدم الرضا عنه؟
هذا ويزيد من خطورة التخبط أن بيلوسي تنتمي إلى حزب الرئيس، وليست معارِضة له مثلما كان نيوت غينغريش، عضو الحزب الجمهوري وسلفها في رئاسة مجلس النواب، الذي سبقها إلى هذه الزيارة في عهد الرئيس بيل كلينتون، عضو الحزب الديمقراطي، من باب المزايدة على هذا الأخير في مواجهة الصين. والحال أن عهد كلينتون كان قد شهد تدهورا خطيرا في العلاقات بين واشنطن وبكين، بعد أن زايد كلينتون في حملته الانتخابية على سلفه جورج بوش الأب، بما حدا بوش لبيع طائرات حربية إلى تايوان. وعندما تولى كلينتون مقاليد الرئاسة، زاد من حجم مبيعات السلاح الأمريكي إلى الجزيرة، مما أغاظ بكين، ثم أرسل قوة بحرية إلى جوار تايوان، في وقت كانت بكين تمارس عليها ضغوطا عسكرية تعبيرا عن سخطها من صعود نجم الانفصاليين فيها على مشارف انتخابات.
هكذا باتت الصين، سيما من خلال قضية تايوان، محط مزايدات في السياسة الداخلية الأمريكية، انعكست بصورة خطيرة على سياسة البلاد الخارجية. وإنه بذاته عيب كبير أن تغدو سياسة أعظم قوة على هذا الكوكب، وإزاء أمور تخص مصير الكوكب برمته، أسيرة مزايدات رخيصة في السياسة الداخلية. وقد جاء تصعيد حدة الخصومة الأمريكية تجاه الصين، عقب عقدين شهدا توددا بين الدولتين، كانت قد بادرت إليه إدارة ريتشارد نيكسون، التي واجهت وضعا حرجا في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما تضافرت بسالة مقاومة الفيتناميين للغزو الأمريكي لبلادهم، مع صعود الحركة الشعبية المناهضة لذلك الغزو داخل الولايات المتحدة بالذات، على خلفية أزمة خطيرة أصابت الاقتصاد الأمريكي، وأدت إلى فك الارتباط بين الدولار والذهب.
في ذلك الحين أشرف هنري كيسنجر بصفته مستشارا للأمن القومي لدى نيكسون، على انعطاف استراتيجي بالغ الأهمية، قضى بتثليث العلاقات بين واشنطن من جهة، وكل من موسكو وبكين من الجهة الأخرى. فعوضا عن مخاصمة البلدين كما جرت العادة منذ أن وصل الشيوعيون إلى الحكم في بكين غداة الحرب العالمية الثانية، رأى كيسنجر ومعه نيكسون أنه أفضل لواشنطن أن تستفيد من العداوة التي كانت قائمة بين موسكو وبكين. فدشن عهد نيكسون مرحلة تودد بين الدولتين، دامت عقدين من الزمن، ووصلت إلى حد بيع أمريكا أسلحة إلى الصين.
كانت أبرز نتيجة لذلك الانعطاف، انتقال واشنطن من اعتبار حكم تايوان ممثلا شرعيا وحيدا للصين الواحدة إلى الاعتراف ببكين في هذا الدور، بما أدى إلى حلول جمهورية الصين الشعبية محل تايوان في كرسي الصين دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة. والحال أن حكم تايوان كان هو الأكثر إصرارا على مبدأ الصين الواحدة حتى ذلك الحين، قبل أن يحل الانفصاليون محل اللاجئين من الصين القارية في حكم الجزيرة. وقد أتاحت السياسة الأمريكية الجديدة لواشنطن تخطي ورطتها بأفضل حال.
أما الحدث الأبرز في تغيير السياسة المذكورة، فقد كان تزامن بدء انهيار المنظومة السوفياتية مع ربيع بكين، الذي جرى القضاء عليه بقمع عنيف للحشد الكبير الذي احتل ميدان «تيان آن من» في عام 1989، والذي كان شبيها بالحشد الذي شهده ميدان التحرير في القاهرة في عام 2011. فإن ذلك الحدث، الذي جاء في سياق تبجح الولايات المتحدة بفوزها في الحرب الباردة وانتصار الديمقراطية التي ادعت تمثيلها، كان مدخلا إلى شن هجوم سياسي على الحكم الصيني، الذي تحولت صورته من حكم منافس لعدو أمريكا الأكبر، أي الحكم الشيوعي السوفياتي، إلى آخر بلد كبير يحكمه شيوعيون.
ومع ذلك فإن النمو الاقتصادي المذهل الذي عرفته الصين، بدءا من التسعينيات في إطار انفتاحها على الرأسمالية، جعلها شريكا أساسيا للاقتصاد الأمريكي، بما خفض من حدة خصومة واشنطن إزاءها، في أولى سنوات القرن الجديد… إلى أن وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في عام 2017، ودشن تصعيدا خطيرا في سياسة أمريكا تجاه الصين، شمل حربا اقتصادية مرفقة باستفزازات في شأن تايوان، أعادت توتير العلاقات السياسية والعسكرية بين واشنطن وبكين بصورة خطيرة.
وقد فعلت المزايدة بين تكتلي السياسة الداخلية الأمريكية فعلها، بحيث رأينا جو بايدن عند توليه الرئاسة يواصل سياسة سلفه، بدل أن يعدل عنها. لكن إذا كان تثليث العلاقات الذي أشرف عليه كيسنجر من باب الدهاء، فإن سلوك إدارة بايدن الاستفزازي إزاء بكين، في وقت عادت العداوة بين واشنطن وموسكو إلى حدة مماثلة لتلك التي عرفتها زمن الاتحاد السوفياتي، إنما هو من باب الغباء، إذ يدفع بالصين إلى توثيق علاقتها بموسكو بما يناسب تماما مصلحة هذه الأخيرة.
نافذة:
فعلت المزايدة بين تكتلي السياسة الداخلية الأمريكية فعلها بحيث رأينا جو بايدن عند توليه الرئاسة يواصل سياسة سلفه بدل أن يعدل عنها