يونس جنوحي
على عكس المتوقع تماما، بدأت جدران المدينة العتيقة في طنجة تفقد بياضها السابق. ولا شك أن السياح المغاربة المنتظر أن يُعرجوا – في طقسهم السنوي المقدس- على منطقة الشمال، سوف يلمسون بأنفسهم هذا التحول في أزقة المدينة العتيقة.
الأماكن التي اعتادوا أن يزوروها سابقا، في كامل رونقها، قبل سنة فقط، سوف يرون أنها الآن بدأت تسمح بعودة الفوضى التي كانت تعم المكان، قبل سنوات طويلة، أي قبل انطلاق أشغال الترميم التي تزامنت مع فترة الحجر الصحي والتباعد وتعقيم اليدين وأشياء أخرى.
الأزقة التي كانت ممنوعة على السيارات، صار مسموحا لكل ما يدور على أربع، أن يصول فيها جيئة وذهابا في عرقلة واضحة لحركة السير. أينما وليت بصرك ترى بقايا القمامة والإسفلت المعوج، كما لو أن المدينة شهدت تجارب تفجير الديناميت خلال فصل الشتاء.
سيرى السياح بعد أسابيع قليلة، كيف أن المكان المحيط ببرج النعام، والمنعرجات الساحرة التي تأوي إقامات فاخرة كانت إلى وقت قريب معقلا لزيارات كبار الشخصيات العالمية، صارت هي الأخرى رمادية بسبب الإهمال، وتحول بياض أسوارها الناصع إلى ما يشبه «الكاكي» الكئيب.
أصحاب بعض المقاهي الفخمة، بدؤوا يشحذون أسعارهم الجديدة في تناقض سافر مع ما يتعارف عليه الناس في باقي المملكة. ولن يمانعوا في بيع المغربي قهوة بخمسين درهما وقنينة ماء بخمسين أخرى، بل إن واحدا من هذه المقاهي، حدد حتى توقيت الجلوس لتأمل البحر، وجعله لا يتعدى ساعة واحدة تنطلق بعد كل طلب يُرفع إلى سعادة النادل. وهذا الأمر ليس توقعا، بل هو واقع يمكن التأكد منه بسهولة.
في طنجة، هناك استعداد لدى بعض الخواص لكي يفتحوا مشاريع لبيع أشعة الشمس، وأخرى لزرع عدادات لتحديد كمية الهواء التي يستنشقها المغربي الذي يزور المدينة.
أما أصحاب العقار، فحدث ولا حرج. عندما يحل موسم الصيف في شمال المغرب، يصبح مُلاك الشقق والسماسرة كمن يوزعون المساعدات الإنسانية على المناطق المنكوبة. الحصول على شقة بثمن مناسب يعادل الحصول على طوق نجاة في عرض المحيط.
الفنادق تمتلئ عن آخرها، والشقق المفروشة – وما أدراك ما هي- تعج بالغرباء، حتى أن سكان العمارات يضعون أمنهم في كف عفريت من يونيو إلى شتنبر، إذ إن أغلب الذين يتعاطون كراء الشقق بنظام «الليلة»، لا يصرحون للسلطات بالنشاط الذي يزاولونه، وبالتالي فإن «النشاط» كله يصبح خارج القانون.
لم يحدث أن استقبلت طنجة، ونواحيها، هذا الكم الهائل من السياح، رغم أنها واحدة من أقدم الوجهات الدولية على وجه الأرض، وتستقبل السياح في الفنادق منذ أزيد من 150 سنة، وربما أكثر.
يُفترض أن تكون هناك خبرات سياحية في المدينة تتوارث التنافس على جودة الخدمات، لكن ما تبقى من أمجاد الأمس لا يعدو أن يكون كتلا من الإسمنت يتسابق أصحابها على الفوز بأكبر عدد من الزوار، والبقية مجرد تفاصيل هامشية.
لم يتبق من أمجاد المدينة سوى أولئك المرشدون السياحيون الطاعنون في السن، بلباسهم المغربي العتيق، والطربوش الأحمر الذي أتت عليه الشمس، يتأملون المارة ويلقون بين الفينة والأخرى نظرة خاطفة على سياح يتحدثون اللاتينية بنبرة قادمة من وراء المحيط. نادرا ما يطلب أحد خدماتهم.. إذ إن أعداد الذين يرغبون في معرفة تاريخ المدينة العتيقة يتراجعون يوما بعد يوم. إذ كيف تستطيع إقناع سائح، مغربي أو أجنبي، أن الزقاق الذي يكاد يُغلق بأكوام الكرتون وعلب الحليب الفارغة، وتعلو جدرانه العبارات النابية، قد رُمم قبل أربع سنوات فقط، وأن تاريخه يعود إلى فترة التنافس الأجنبي على استمرار المغرب؟ لا شك أن اللون الرمادي الذي أصبح يخيم على معظم أزقة المدينة العتيقة، كفيل بجعل السياح يعرفون ماذا يقع في مكاتب الذين عُهد إليهم أخيرا بتسيير المدينة.