من أجل فهم مغاير للحداثة
جمال مكماني
من خلال كتابه «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم Un nouveau paradigme :Pour comprendre le monde d’aujourd’hui»، يعتبر آلان تورين أن وجود الحداثة رهين بتوفر مكونين اثنين وهما؛ الاعتقاد بالعقل والنشاط العقلي، بحيث إن الحضارة الحديثة تنبني على التكنولوجيا والحساب والدقة وتطبيق نتائج العلم على ميادين متنوعة من حياتنا وحياة المجتمع. وثانيا؛ الاعتراف بحقوق الفرد، أي الانطلاق من الشمولية التي تعطي لجميع الأفراد الحقوق نفسها، بغض النظر عن أوضاعهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية.
من خلال هذين المكونين المحددين لوجود الحداثة، سجل آلان تورين ملاحظات دقيقة بخصوصهما، حيث اعتبر أنه من اللافت للنظر، أن العقل لا ينبني على الدفاع عن المصالح الجماعية أو الفردية، بل يتأسس على ذاته وعلى مفهوم الحقيقة ولا يتم إدراكه بمصطلحات اقتصادية أو سياسية، وبذلك فالعقل أساس لااجتماعي للحياة الاجتماعية. والمنطق نفسه ينطبق على الاعتراف بحقوق الأفراد، والنتيجة التي يخلص إليها من خلال هذه الملاحظات، هي كون المجتمع الحديث يتأسس على مبدأين أساسيين ليسا من طبيعة اجتماعية هما: النشاط العقلي والاعتراف بالحقوق العامة لكل الأفراد.
إن ما نعيشه اليوم – يضيف آلان تورين- هو تهدم المجتمع، أي تهدم الرؤية الاجتماعية للحياة الاجتماعية ومجموع المقولات التي تحصنا من وراءها منذ أكثر من قرن. إن المجتمع يتفتت أمام أنظارنا على نحو متسارع؛ وعلى أنقاضه تتقدم قوتان هما: القوى المطبعة(naturalisées) ، وهي قوى غير منضبطة تتشكل من قوى السوق والحرب والعنف. وقوى الدعوة الاجتماعية إلى الحقوق والعقل وهي قوى؛ تشكل العقلانية والحرص على الحقوق الإنسانية الشاملة عناصر مركزية فيها. فصحيح أن عالمنا اليوم محكوم أكثر بالقوة، ولكن أيضا أكثر اهتماما بخيارات أخلاقية باتت تحتل مكانة محورية في الحياة السياسية، وتلقى إقبالا وتجاوبا متزايدين. إننا أمام حداثة تتوطد مبادئها على أنقاض الأنظمة الاجتماعية، متمثلة في الإيمان بالعقل والاعتراف بالحقوق الفردية الشاملة.
إن النموذج الاجتماعي الغربي للحداثة هو نموذج مستمد من مبادئ الحداثة، حسب آلان تورين، لأنه ينتظم حول فكرة مجتمع يصنع ذاته. إنه حركة، تحول ذاتي، تدمير ذاتي، تدمير للذات تمهيدا لإعادة بنائها. وهناك فرق بين الحداثة والتحديث، فالتحديث ليس شرطا كافيا وضروريا للحداثة، لأن الجديد لا يصنع من الجديد الخالص، بل من القديم أيضا. الحداثة هي عملية خلق تتجاوز مجالات تطبيقها، لأن وجها آخر لكل هذا، هو وجه إعادة تأويل ما قبل- المحدث.
إن فكرة الحداثة – من خلال كتاب «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم»- تحمل في ذاتها توترا يستحيل تجاوزه بين العقل وحقوق الأفراد من جهة، والمصلحة الجماعية من جهة ثانية، لذلك فإن مبدأي الحداثة لا يصيران واحدا، بل يمكن أن يدخلا في منافسة: فالعمل العقلي لا يكون دوما مطابقا للحقوق الفردية، كما أن الحقوق الفردية غالبا ما تمارس ضد الفكر العقلاني.
إن المُتَعِية(hédominisme) التي يقترحها الفكر النيوليبرالي، حسب تورين، من بين حسناتها أنها غير مناوئة لرغباتنا، لكنها لا تضمن حرية الاختيار لأولئك الذين يتأثرون بالتسويق. وهذه المتعية هي بعيدة كل البعد عن مفهوم الحداثة، فليس الاستهلاك المتسارع والمتنوع هو الذي يجعل من المجتمعات أكثر حداثة.
يقر آلان تورين من خلال كتابه المذكور أعلاه، أننا قد أصبحنا نعيش أمام عالم يتحدد بشكل مغاير عما ألفناه، أي من خلال تصارع قوى السوق والحروب والكوارث مع الحداثة، مع الذات الفاعلة.