من أجل أَخْلَقَة التّنافس
عبد الإله بلقزيز
لو تمتع النظام الصحي في العالم بالتأهيل المادي والتقني والبشري واللوجيستي الكامل، لَمَا أمكن لجائحة كورونا أن تأتيَ على البشريّة بوخيم العَقَابيل.
نعم، كان يمكن لضرباتها أن تكون موجعة، وأن تُخلف من الخسائر ما خلفَتْه جوائح أخرى سابقة، مثل أنفلوانزا الخنازير أو إيبولا أو حتى الإيدز، ولكن كان يسع مثل ذلك النّظام الصحي المؤهل أن يستوعب ضربَتَها، بسرعة، وأن يُحْرِز نجاحات في السيطرة عليها إنْ لم يَقْوَ على علاجها الفوريّ. لكنّ النّظام ذاك بَدَا، من أسفٍ شديد، متهالكًا بحيث عجز عن استيعاب الضّغط الكثيف على مراكزه الاستشفائية، إلى الدرجة التي أُجبِر فيها – أمام ارتفاع أعداد المصابين – على أن يسلك خيار الأولويات والانتقاء من بينهم بما يتناسب وإمكانياته المحدودة !.
وغني عن البيان أنه دفع في ذلك ثمن سياسات رسمية أهملتْه وانصرفت إلى غيره من ميادين ذاتِ ربحية وجزيلة العوائد: بالمعنى المادي – غير الإنساني – الصرف. ولقد يقال، هنا، إن الثمن هذا موضوعي إن فكرنا فيه في نطاق النظام المجتمعي: الاقتصادي والإنتاجي الذي أنتجه التطور وقادت إليه الرأسمالية. ولقد يقال، استطرادًا، إن المبدأ الحاكم لذلك النظام هو المصلحة التي لا تُسْتَأتى إلا من طريق حرية التملك والمبادرة، ومن طريق المنافسة الحُرة. والقولُ صحيحٌ، من غير مِرَاء، وينطوي على اعترافٍ بأن مقدمات النظام المجتمعي هذا هي التي تأخذه إلى مثل تلك النتائج المأساوية التي منها إخفاق النظُم الصحية القائمة في كف أذى أوبئة فتاكة من قبيل وباء كورونا؛ لا يتوقف أذاها عند حدود الأبدان المفتوك بها، بل يتعدى ذلك إلى الفتك بالاقتصاد والإنتاج والمبادلات…
ما ليس صحيحًا هو أن يُرى إلى آليات النظام تلك وكأنها عمياء، وإلى مفاعليه وكأنها حتمية لا مهْرب منها ولا مندوحة عن تلقيها في صُورها المأساوية. آيُ ذلك أن النظام هذا أصاب نجاحًا، في مراحل من تاريخه، في أن يصحح فيه ما كان يعتَوِرُهُ من خلَلٍ وسوءِ مسار. ومن ذلك، مثلاً، ما أجراهُ من تقويم لأدائه في لحظته الكينزية التي أثمرت نموذج دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب الرأسمالي؛ الدولة التي استدخلت في جملة سياساتها برنامج الإنفاق على القطاعات الاجتماعية الحيوية؛ مثل الصحة والتعليم والسكن والتأمين الاجتماعي، قبل أن تتراجع عنها وتنتكس، فتتركها مرعًى ومرتعًا للتنافس بين ذوي المصالح الخاصة ممن يبحثون عن منافذ الربح وفرصه، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقوق الاجتماعية للناس، وعلى حساب مبدإ المصلحة العامة؛ المبدأ الذي عليه كان مبْنى شرعيّة الدّولة الوطنيّة الحديثة.
لا يفوتُنا، طبعًا، إدراكُ أن مبدأ المنافسة هو، على الحقيقة، المبدأ الذي لا يمكن النظامَ المجتمعي الحديث أن يَزْوَرَّ عنه ازورارًا أو يَحيد من دون أن يتداعى صَرْحُه؛ وأنه المبدأ الذي عليه مبْنى العلاقات بين الدول، في عالم اليوم، المتدافعةِ بالمناكب لتحصيل المصالح وجَلْب المنافع. ولكن، أليس للتنافُس سوى وجه واحد لا غير؛ أليس له من الميادين والمجالات والفرص إلاّ ما تتردّدُ صورُهُ أمام عيوننا، وأخبارُهُ على مسامعنا اليوم؟ أليس يجوز التنافُس إلا في ميادين الربح السريع؛ في اقتصاد الحرب، واقتصاد الاستهلاك، واقتصاد الدعة والرضا، وإغراق الأسواق بما يفيض عن حاجة الطّلب على الجنون والغرائز والمَلَذات؟ أليس الاستثمار في الصحة، مثلاً، استثمارًا في الحياة عظيمَ الفوائد على البشرية جمعاء؟ ومَجْلَبَةً للسلامة والاستقرار ومَزيد إنتاج؟.
بعد هذه الجائحة؛ بعد الاتعاظ بدروسها الكثيرة، سيكون على البشرية أن تفتح ورشةً جديدةً للتفكير وللعمل؛ للتفكير في النموذج التنمويّ السائد الذي أشبع حاجات، وتَنَكب عن إجابة غيرها، والتفكير في موَاطن العَطب فيه وما عساها تكون البدائل الناجعةُ عنه؛ وللعمل من أجل إرساء عقيدةٍ إنتاجيةٍ جديدةٍ تنصرف إلى بناء نموذج للتنميّة الاجتماعية (لا الاقتصادية فحسب) بَديلٍ ونافع تدور أولوياته على أقدس حقوق الإنسان جميعًا: الحق في الحياة. لن يكون كبش الفداء، في هذه الورشة من البحث عن النموذج التنموي البديل، هو مبدأ التنافس. سيظل التنافس قائمًا ومستمرا مثلما كان – داخل المجتمع الواحد وبين الأمم والدول – ولكن سيكون عليه أن يصبح شريفًا ونظيفًا أكثر، وأن يتحلى بمضمونٍ إنساني. أَخْلَقةُ التنافس وحدها، غدًا، مفتاح إعادة البناء بعد كل هذا الخراب العظيم الذي قادنا إليه منوالٌ دارويني ومتوحش من “التنمية” و”التقدم”.