من أجل أخلقة العولمة
عبد الإله بلقزيز
لست أوافق رأي من يذهبون إلى الاعتقاد بأن العولمة ستكون في جملة الظواهر التي ستقضي من جراء عاصفة كورونا الهوجاء. ربما أميل إلى الظن أن الاعتقاد هذا قد يكون أقرب إلى الينبغيات منه إلى التوقعات المبنية على مؤشرات. إنه أمل يخامر كثيرا من الذين وقفوا من العولمة موقفا نقديا، ورأوا فيها الظاهرة المسؤولة عن العديد من الآفات التي حلت بالعالم، وخاصة بمجتمعات الجنوب ودوله، في الأعوام الثلاثين الماضية.
ومع أن نزيها لا يملك أن يجادل في صواب مثل هذا النقد وموضوعيته للعولمة، إلا أن الفارق وسيع بين نقد العولمة وبين الرغبة في تشييعها. وإلى ذلك، فإن العولمة لم تتولد – كظاهرة تاريخية – من مؤامرة، كما يُظن، بل نشأت من آليات تطور في التاريخ المعاصر. ومشكلتها ليست فيها، كعولمة، كآلية نزاعة إلى توحيد العالم، وإنما مشكلتها في نوع السياسات التي توسلتها واستخدمتها، وأكسبتها مضمونا غير إنساني وغير عادل فقادت، بالتالي إلى إلحاق الأضرار بمصالح قسم كبير من شعوب العالم وأمم ودوله.
لكي أكون دقيقا، في ردي على الفرضية آنفة الذكر، أقول: نعم، قد ينصرم شكل من العولمة، شهدنا عليه طويلا، ولكن العولمة في حد ذاتها – بما هي نظام من الآليات الدافعة ومن التفاعلات بين الدول ثم بين الأمم- سيستمر على نحو ما من الأنحاء. سيكون عسيرا أن نتخيل كيف يمكن أن تتبخر، فجأة، مؤسسات اقتصادية وإنتاجية وتجارية وبنوك عالمية وكأنها لم تكن؛ أو تتوقف حركة تدفق الأموال والرساميل والمعلومات الخارقة للحواجز، كي تعود هذه إلى حيزاتها القومية؛ أو أن تنهار – فجأة – الشركات العولمية الكبرى فتتقاسم مكوناتها الوطنية حصصها من ميراث الانفراط. بالقدر عينه، سيكون عسيرا أن نتخيل عالما خاليا من خدمَات شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة والأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وسواها. هذه جميعها من عدة اشتغال العولمة ومن ثمراتها، وكل افتراض بأن العولمة سائرة إلى الزوال يستجر، حُكما، الافتراض بأن كل هذه العدة ستصير، غدا، في حكم الخردة التي يمكن الاستغناء عنها.
قلت إن طبعة من العولمة قد تتقادم وتمحي لأن المشكلة فيها لا في العولمة. أما النوع هذا الذي قد ينصرم من العولمة فليس شيئا آخر غير ذاك الذي شهدنا عليه في العقود الثلاثة الأخيرة. أعني تلك العولمة التي مبناها على السيطرة والهيمنة، والإخضاع القسري: إخضاع القوي للضعيف والبطش به، والسطو على حقوقه، وتجاهل مصالحه. انتهى ذلك الطور من العولمة – أو هو على الوشك من الانتهاء – منذ أفضت بنا عقيدة القوة والغطرسة والهيمنة إلى الطريق المسدود، فأطلقت – في مواجهتها – ألوانا من الاحتجاج والرفض تُؤْذن بتحويل الكون كله إلى مسرح من صراعات غير قابلة للضبط والاحتواء. وانتهى منذ تحولت بلدان من تخوم العولمة وهوامشها إلى مراكز جديدة لها، وصارت مراكزها القديمة هوامش. وانتهى منذ ضُرِب احتكار الثروة والسلطة، في العالم، في مقتل وباتت فرص غنم مكتسبات العولمة في حكم المتاح للبشرية جمعاء. ثم ها هو ينتهي مع الصعود الحثيث لخطاب إنسانوي جديد في أوساط قوى دولية جديدة ليست ملوثة بماض استعماري أو عنصري (لأنها جنوبية)، بل كانت ضحية له في أزمنة استضعافها.
هذه الطبعة الكالحة من العولمة آيِلة، حكما، إلى الزوال؛ وهي التي شربت كأسها كلها بمناسبة جائحة وباء كورونا. أما الموعد القادم للبشرية فسيكون مع عولمة تختارها، هي، بإرادة حرة وتكون موضع مواضعة وتوافق بين شعوبها ودولها؛ عولمة إنسانية ومن أجل الإنسان وكرامة الإنسان؛ وعولمة عادلة مبناها على النصفة في الحقوق، لا على الهيمنة والاستغلال والتحيف. قد يقال إن هذه طوبى جديدة لم يَثبُت على إمكانها التاريخي دليل. ونقول: قد تكون طوبى في القريب المنظور، لكن القرائن على إمكانها في المدى المتوسط – بعد سنوات عشر مثلا- كثيرة وقوية.