منتصف الطريق…
شامة درشول
مذيعة أمريكية نشرت على حسابها على «تويتر» سؤالا تقول فيه: «أحتاج إلى تجارب شخصية لنساء ورجال في الأربعين أو الخمسين، متزوجين، أو آباء، أو لديهم مشاغل عائلية وعوائق اجتماعية ومع ذلك استطاعوا أن يبنوا حياتهم من جديد، أو يحققوا حلما لم يحققوه وهم في العشرين أو الثلاثين». وكانت النتيجة أن سؤالها هذا لقي تفاعلا كبيرا إلى درجة أنه احتل صدارة «الطوندونس» الأمريكي.
لن أخوض هنا في الحديث عن «طوندونسهم» و«طوندونسنا»، فقد اكتشفت أن لا أحد يرغب في سماع ناقوس الخطر وهو يدق، ولا أحد يريد أن يوقف اختطاف «صعاليك الأنترنت المغربي» للشعب، ما لفت انتباهي فعلا هو ماذا لو طرحنا هكذا سؤال، كيف ستكون الإجابة؟
العمر هو سجن اخترعه الإنسان وحبس نفسه فيه والآخرين، وحين اكتشف أنه سجن يصعب الانعتاق منه بسهولة راح يبخس منه ويعتبره أنه مجرد رقم، في حين أن الحقيقة تقول إن المشكلة ليست في العمر، بل في كيف ستصرف رصيدك البنكي المحدد في قدر معين من الأيام، على نفقاتك التي لا تميز بعد بين الأساسي منها لك والكمالي.
رد المتفاعلون مع سؤال المذيعة باستعراض تجاربهم، من قالت إنها أم لأربعة أطفال، وأنها في الخمسين، وقد عادت إلى الجامعة لتدرس، وأنها ألفت كتابا، ومن قالت إنها أم وجدة، وفي الستين من عمرها وأنها أطلقت مشروعها التجاري الذي كانت تحلم به، وزادت عليه عبارة استوقفتني «لا يزال الكثير من الحياة لأعيشها»، أي أنها ترى أنها لم تفعل بعد الكثير، ولا تزال تريد أن تعيش أياما أخر لتحقق فيها كل ما تطمح له. أما سيدة أخرى فقالت إنها سجنت وهي في الخمسين وكانت تتعاطى المخدرات، وأنها بعد أن شفيت قررت أن تعيد بناء حياتها من جديد، وأنها اليوم تقارب السبعين وتستمتع كل يوم بالذهاب إلى متجرها الذي حقق أرباحا تجاوزت المليون دولار. أما عن تجارب الرجال، فمن بين المتفاعلين كان شخص يبلغ من العمر السابعة والأربعين، قال إنه اختار أن يرحل إلى الموزمبيق وينضم هناك إلى منظمة للمساعدة الإنسانية، وأنه هناك التقى بشخص يبلغ من العمر تسعين سنة، وأنه يتعلم الموسيقى ولغة جديدة.
تنوعت وتعددت تجارب وقصص المتفاعلين، وكانت كل حكاية منها تجعلك تبتسم، وعيناك تتلألآن وكأن الحياة عرفت أخيرا طريقها إلى قلبك، وملأته أملا بأنها جميلة رغم كل شيء، لكن السؤال نفسه ظل يطاردني وكأنه حريص على أن يعكر علي صفاء ذهني: «ماذا لو طرحنا هذا السؤال في المغرب؟»، لكن تعليقا من أحد المتفاعلين جعلني أتوقف عنده وهو يقول: «لقد حققت أشياء كثيرة حين بلغت الخمسين من عمري، لم يكن علي أن ألتحق بهذا الماراثون الذي يطالبني بأن أنجز الكثير في تلك السنوات الخمس التي تنقلك من العشرين إلى الثلاثين».
استوقفني التعليق، وضبطت نفسي أبتسم، فتساؤلي عن ماذا لو طرحنا هذا السؤال في المغرب لم يكن مهما بقدر أهمية ما اكتشفته، أنه فعلا الحياة لا علاقة لها بالعمر، ليس لأن العمر مجرد رقم، بل لأن هذا العمر، أو الرقم يصبح بدون قيمة لو أنت أهدرته في عيش حياة واحدة تسميها أنت «مستقرة».
الخطأ الذي نرتكبه، أينما كنا، سواء في المغرب، أو في أي رقعة جغرافية أخرى من هذا المنزل الكبير الذي يسمى العالم، هو أننا نصرف رصيد العمر في عيش حياة طبق الأصل لتلك التي عاشها آباؤنا وأجدادنا دون أن نملك الجرأة ليس فقط لنعيش التي نريدها نحن فعلا، بل حتى لنكتشف أشكالا جديدة يمكن من خلالها أن نجالس هذه الحياة. الأمر لا يختلف عن حرصك على اقتناء قميص يحمل علامة تجارية معينة ليس لأنك تحب هذا القميص، أو علامته التجارية، بل فقط لأن ارتداءك له سوف يجعل الناس يرونك شخصا من طبقة معينة، وسيغبطونك أنها منها، وستكتفي أنت بالتفاخر بأنك تملك ما لا يملكه الآخرون، وأن هذا دليل كاف على نجاحك، دون أن تنتبه إلى أنك في الحقيقة مجرد جبان يخشى أن يخاطر بصرف رصيده في بطاقة الحياة خوفا من أن يجد نفسه مفلسا، فيقرر أن ينعم بما يسميه الاستقرار، وهو يجهل أنه حين يتحول نبض القلب من منحنى إلى خط مستقيم، فذاك يدل على أن هذا الشخص قد استقر ف… مات.