شوف تشوف

الرأيالرئيسية

منازل في معراج الصيام

الصيام معلم يلقن درس التحرير، يلقن درسا وجوديا في فعل بسيط هو الزهد في تناول الطعوم، ليطرح بذلك مسألة الفم، كعورة، لعبت دور البطولة في كل ما ابتلينا به من شرور، إلى الحد الذي تعلن فيه ميثولوجيا أمة الملثمين حقيقته كإثم استوجب القمع، لتخترع في حقه اللثام قصاصا.

وهو موقف لا من الفم وحده، ولكن من سلطان شرور آخر يخفيه الفم، هو: اللسان. ولما كانت الميثولوجيا ترجمان أمنا الطبيعة، في العلاقة مع واقعٍ معقد هو الكينونة، فقد استجارت بمواهبها الطفولية لقمع الذخيرة المخفية في مجاهل هذا المستودع، فكبلته بالقناع، أملا في ترويض سطوة ثروة هي بالأساس رأسمال حس.

هذا الحس الذي كان وسيبقى الرهان في تجربة كل إنسان قرر يوما أن يبرهن لنفسه أنه إنسان، وليس حيوانا، خُلق ليلتهم ويغتلم (من الغُلمَة)، بدل أن يحترف الكلم والألم، لأن الفرق شاسع بين إنسان يلتقم لكي يحيا، وبين آخر يحيا لكي يلتقم.

والنهم إلى الطعوم درس نتعلمه من ازدواجية دور عضلة الإثم (اللسان)، لأنها لا تسيء لنا فقط بنشاطها اللئيم، المترجم في حرف اللغو، ولكنها تأبى إلا أن تدنسنا بحاسة تذوقنا لما نستطعم، فلا ندمن الأغذية في وجودنا أفيونا إلا استسلاما لسلطة هذه الذائقة الملعونة، إلى الحد الذي نتساءل فيه: هل نستطيع أن نفلح في أعمار وُهبت لنا بالمجان، دون أن نتنصل من ثالوث الاغتراب الكينوني، القرين لسلاطين الإغواء: الطعم والكلم والغلم؟

ففي حين يتولى الطعم والغلمة الطينة الحيوانية فينا، يستقل الضلع الثالث في التثليث بطبيعة الإنس فينا، لأن لا برهان نستطيع أن نحاجج به في شأن هويتنا الإيمانية، المنذورة للسمو، سوى نشاط هذه العضلة اللسانية الملتبسة، لأنها تستطيع أن تعلي شأننا، بقدر ما تستطيع أن تستنزلنا من علياء مجدنا، لتحط من قدرنا.

فنحن نستطيع أن نصوم عن فردوس اللذة الحسية بالزهد في الطعام وفي العلاقة الحسية، ولكن هيهات أن نجرؤ على الزهد في استخدام اللسان دون أن نفقد، بهذا العمل، مبرر وجودنا.

وبرغم هذه الحجة، بيد أن الصوم عن الكلم ظل، وسيظل الرهان الأخير في تحقيق ما أعجز الأنام، وهو: القداسة!

وهو ما لا يتحقق عادة بدون اعتناق دين تقنية جسيمة هي الصوم عما هو أعظم شأنا من اللذات الحسية كلها، وأعظم شأنا حتى من الصوم عن الكلم، وهو: الصوم عن العلاقة الإنسانية!

ولكن بأي حيلة نستطيع أن نصوم عن برهان وجودنا قيد هذا الوجود، كما هو الحال مع علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ لا مفر هنا من الاحتكام إلى ساحة الحكمة الدهرية التي لم تعجزها القرابين في سبيل أن يسمو الإنسان بنفسه، بأن يغير ما بنفسه، ليحرر بنفسه ما بواقعه، ليحقق ما كان في تجربة الجنس البشري قدس أقداس، كما هو الحال مع: القداسة. إنه التحدي المترجم في حرف كلمة متواضعة، ولكن مفعولها سحر أسحار، وهو: العزلة!

فالعزلة وحدها تستطيع أن تقمع فينا شهوة اللسان اللا مسؤول إلى ما كان إثما، بل دنسا، في حق الحقيقة، وهو: المنطق، الذي بفضله تأنسنا، ولكن بفضله أيضا اغتربنا عن طينتنا الأولى، وحُرمنا الفردوس المتوج بوسام اللعنة.

فنحن، باغترابنا عن حقيقتنا الأسمى، ظللنا على دين ماهيتنا المفقودة، بدليل هوسنا بالبعد المفقود في تجربتنا الروحية، وجنتنا في أن نستعيدها، إن لم يكن حرفا، فعلى الأقل مجازا، على نحو يعزينا في محنة منفانا. وهو ما لا يتحقق بدون القبول بصفقة، نتنازل بموجبها، عن نصيب من مؤهلات وجودنا قيد واقعٍ أرضي، مقابل الاحتفاظ ببصيص من شموس وطننا الضائع، وأول قربان في أبجدية هذه الصفقة هو الصيام عن أفيون العلاقة مع واقعنا الدنيوي، المشفوع بالإثم، كعتبة أولى في معراج القداسة، لنُنَزِّهه عن الحضيض، ونضمن لنا حضورا في البعد المفقود، ليقيننا بعدم وجود سكينة ضمير، بدون نعيم وجودنا في بلاط الملكوت، ونعيم وجود الملكوت فينا.

فمهما ضل بنا السبيل، بيد أننا نرفض أن نغترب عن حبل السرة الروحي، الذي يربطنا بمسقط رأس هو: التكوين.

إبراهيم الكوني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى