نظرا لثرواتها الباطنية والاستراتيجية تعتبر إفريقيا السمراء مطمعا للدول الغربية وبالخصوص الولايات الأمريكية والصين. هذه الدول استطاعت تثبيت قدمها من خلال الاستثمار في المشاريع والبنية التحتية لتكون بذلك مختلفة عن القوى الاستعمارية التقليدية وتكسب مكاسب مضاعفة على مر السنين بذكاء.
تاريخ ممر لوبيتو
ممر لوبيتو يطلق عليه أيضا اسم “الممر العابر لإفريقيا” وهي تسمية توضح طبيعته المخترقة لـ3 من دول القارة. وبدأ إنشاء خط السكة الحديد في 1903 وانتهى في 1929، وذلك من قبل مهندس تعدين أسكتلندي، هو السير روبرت ويليامز الذي اكتشف كميات كبيرة من النحاس في مقاطعة كاتانغا المجاورة. وخضع المشروع لامتياز استثماري على مدى 99 عاما. فبنت بلجيكا والبرتغال عدة مسارات تجارية كانت تتعرج عبر الكونغو وأنجولا، لكن خلال الحرب الأهلية التي أعقبت استقلال أنغولا عام 1975، انهار طريق النقل ولم يحظ باهتمام كبير منذ ذلك الحين.
لكن تم إعادة بنائه بطول 1300 كيلومتر يمتد من ميناء لوبيتو الأنغولي المطل على المحيط الأطلسي غرب القارة، إلى مدينة لواو على الحدود الشمالية الشرقية لأنغولا مع جمهورية الكونغو الديمقراطية بالقرب من شمال غرب زامبيا، حيث تشكل الدولتان جزءا من منطقة ما يسمى “حزام النحاس” الإفريقي، ويسير الخط لمسافة 400 كيلومتر أخرى داخل الكونغو الديمقراطية منتهيا إلى مدينة كولويزي في قلب مناطق التعدين.
وأعلن بيان مشترك صادر عن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي في شتنبر 2023 عن دعم الطرفين لمواصلة تطوير الممر وتوسيعه ليضم زامبيا كذلك ليشكل “رد واشنطن” على مبادرة الحزام والطريق الصينية في إفريقيا.
يأمل المستثمرون في الخط الجديد أن يصل حجم الاستيراد والتصدير عبر الخط 3 مليارات طن من البضائع بحلول عام 2035.
ومن المفترض أن تستغرق كل عملية نقل ثمانية أيام، بينما حاليًا تقضي الشاحنة المتجهة إلى “ديربان” في جنوب إفريقيا ما يقرب من شهر على الطريق.
أمريكا والصين.. منافسة ونفوذ
أصبحت المنافسة تحتدم بين أمريكا والصين من أجل توسيع نفوذهما على أسواق المعادن الدولية. فقد شهد العقد الماضي تطوراً دولياً ملحوظا في التحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة أو ما يعرف بـ “تحول الطاقة” (Energy transition)، مما جعل الحصول على المعادن الحرجة بما يشمل الليثيوم والنحاس والكوبالت التي تمثل عنصرا جوهريا في سلاسل توريد الطاقة النظيفة أمرا بالغ الأهمية للولايات المتحدة والصين وأوروبا. ومن المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على المعادن الحرجة بشكل كبير في العقود المقبلة، وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن الطلب سيتزايد خلال العقدين القادمين بمقدار من 20 إلى 40 مرة.
يعد ممر لوبيتو مشروع أمريكا الرائد للتنمية في قارة إفريقيا، ويأتي في إطار الجهود الأمريكية والأوروبية لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في قطاع المعادن الحرجة داخل إفريقيا. ويوفر الممر طريقا أسرع وأقل تكلفة لنقل المعادن الحرجة المنتَجة في وسط إفريقيا إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية بدلا من الطريق الشرقي التقليدي عبر ميناء دار السلام.
النفوذ الصيني بالقارة السمراء
لطالما مثلت القارة الإفريقية جزءًا من الاستراتيجية الصينية الطامحة نحو تعزيز انتشارها الخارجي في العديد من مناطق النفوذ حول العالم، فمنذ نشأة جمهورية الصين الشعبية حرصت بكين على أن تضع لها قدمًا في إفريقيا، وحينها كان التركيز الأكبر لها على العلاقات السياسية وليس الاقتصادية، وتجلى ذلك بوضوح في اهتمامها بدعم حركات التحرر الإفريقية. أعقب ذلك نقلة نوعية في العلاقات بين الصين والقارة إفريقية، حيث أضحت المصالح الاقتصادية هي الغالبة مع تزايد حاجة الصين للاستفادة من ثروات وموارد القارة، ومن ثمَّ اتجهت بكين للتوسع في استثماراتها الخارجية بإفريقيا.
أنشأت الصين خط سكة حديدية في أواخر سبعينيات القرن الماضي يتجه ناحية الشرق من منطقة حزام النحاس إلى ميناء دار السلام في تنزانيا. وبعد ذلك قامت شركة صينية تملكها الدولة بإعادة بناء خط رئيسي للسكة الحديدية في أنجولا بتكلفة قُدرت بنحو ملياري دولار. وخلال العقد الماضي، شهدت مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس شي جينبينغ استثمار الصين نحو تريليون دولار أمريكي في مشروعات البنية التحتية بالدول النامية.
تأتي القارة الإفريقية على رأس مبادرة الحزام والطريق الصينية وذلك بعد انضمام حوالي 46 دولة إفريقية إلى المبادرة أي حوالي مليار من إجمالي عدد سكان العالم، و20 في المائة من مساحة الكرة الأرضية، ووفقًا لأحد التقارير الدولية، فقد بلغ عدد الشركات الصينية في القارة الإفريقية عام 2017 حوالي 10 آلاف شركة بإجمالي عائدات حوالي 180 مليار دولار مرشحة للزيادة حتى 250 مليار دولار عام 2025، كما وصل عدد المواطنين الصينيين ذوي الإقامة الدائمة في الدول الإفريقية إلى حوالي مليون مواطن منذ عام 2000.
كما اتبعت الصين استراتيجية للسيطرة على سلاسل توريد المعادن المهمة في جميع أنحاء العالم من خلال مبادرة الحزام والطريق. وقد حققت نتائج إيجابية في إفريقيا. واليوم، تسيطر بكين على ما يقرب من 70 في المائة من مشروعات التنقيب الصناعية عن الكوبالت والنحاس في جمهورية الكونغو الديمقراطية. علاوة على ذلك، فقد استثمرت الصين ما يقرب من 4.5 مليارات دولار أمريكي في تعدين الليثيوم في بلدان أخرى بوسط إفريقيا مثل زيمبابوي وأنجولا وناميبيا، بين عامي 2018 و2023. وخصصت الصين 1.4 مليار دولار أمريكي لإنشاء مصنع لمعالجة الليثيوم بجوار منجم الليثيوم المملوك للدولة الصينية في زيمبابوي؛ حيث تمتلك أنغولا 32 من أصل 51 معدنًا أساسيًا للتحول الأخضر لاستخدامها في السيارات الكهربائية، والألواح الشمسية، ومولدات طواحين الهواء، والتقنيات الأكثر أهمية مثل الرقائق المتقدمة ووحدات المعالجة المركزية للكمبيوتر العملاق.
وتشغل شركات الصين حوالي 60 في المائة من سوق البناء الإفريقية. وأنفقت الصين في العقدين الماضيين ما لا يقل عن 170 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية الضخمة في جميع أنحاء إفريقيا.
تتطلع الصين أيضاً إلى تأكيد مكانتها كقوة عظمى في إفريقيا في ضوء الحرب الباردة الجديدة مع الغرب، لا سيما لتأكيد الوصول أو الاحتكار غير المقيد إلى معادن الأرض النادرة والموارد الطبيعية الأخرى في إفريقيا، التي لها أهمية خاصة لاقتصاد الصين والمصالح العسكرية.
مبادرة أمريكية لتطوير الممر
في ظل هذه المنافسة، أعلنت الولايات المتحدة عن مبادرة جديدة تهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية في إفريقيا، تسمى “مبادرة القرن الإفريقي للتجارة والاستثمار”، على هامش فعاليات الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمية (PGII) التي عُقدت خلال قمة مجموعة العشرين G20 التي انعقدت في نيودلهي بالهند في سبتمبر 2023. تركز المبادرة على تطوير “ممر لوبيتو”، الذي يربط بين المحيط الهندي والمحيط الأطلسي عبر جمهورية الكونغو الديمقراطية. تهدف الولايات المتحدة من خلال هذه المبادرة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية إلى منطقة شرق إفريقيا، وتعزيز التجارة بين إفريقيا والولايات المتحدة. كما تسعى المبادرة إلى تحسين الأمن والاستقرار في المنطقة، وخلق فرص عمل للشباب الأفارقة(3)، ومنذ إعلان الرئيس جو بايدن عن استثمارات لتطوير ممر لوبيتو، تعمل الولايات المتحدة وشركاؤها على تعزيز الجهود لدعم تطور وشفافية قطاع المعادن الحيوي، والذي يمكنه تنويع سلاسل التوريد العالمية للسيارات الكهربائية، وإفادة الاقتصادات المحلية.
وتماشيًا مع استراتيجية القوة الناعمة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية في القارة الإفريقية، يعكس المشروع أيضًا نية جيوسياسية أوسع لتعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية. ومن خلال الاستثمار في مشروعات البنية التحتية، تهدف الولايات المتحدة إلى تعزيز التنمية الاقتصادية، وبناء شراكات دائمة يمكن أن تخدم الدول الإفريقية والمصالح الأمريكية.
وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى توجيه الموارد الإفريقية عبر ممر “لوبيتو” بدلاً من الطريق الشرقي عبر ميناء دار السلام بتنزانيا، ما يضمن سلاسة تدفق التجارة ونقل السلع والموارد الأساسية من وإلى المنطقة، وسيتم تخصيص الاستثمار الكبير لتمديد خط السكة الحديدية وإنشاء مراكز لوجستية على طول الممر في أنغولا، وسيكون خط السكة الحديدية الجديد، المعروف باسم “غرينفيلد” بين زامبيا و”لوبيتو” بمثابة أكبر استثمار منفرد من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إفريقيا.
طريق تجاري أسرع
تعمل الولايات المتحدة على ضخ ملايين الدولارات في مشروع ممر لوبيتو؛ حيث لا يزال الحصول على المعادن اللازمة للانتقال إلى الطاقة النظيفة مصدرًا للقلق بالنسبة للدول الغربية. ويتمحور الهدف الأمريكي الأساسي لتطوير “ممر لوبيتو” حول محاولة مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في إفريقيا من خلال مبادرة الحزام والطريق.
وتتجلى أهمية نقل تلك الموارد القيمة من حزام النحاس في وسط إفريقيا إلى الأسواق الغربية بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، خاصة مع تطور التحول في مجال الطاقة. فمن خلال الاستثمار في ممر لوبيتو تسعى الولايات المتحدة إلى تقليل، الاعتماد على الصين كمورد رئيسي للمعادن، إنشاء طريق تجاري أسرع وأكثر موثوقية لتصدير المعادن، وتعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية الغنية بالمعادن. وكذلك بناء نفوذ اقتصادي أكبر في القارة.
إن هذه المبادرة المتعلقة بممر لوبيتو تعتمد على الدعم الأولي الذي تقوده الولايات المتحدة لإعادة تشكيل قسم السكك الحديدية من ميناء لوبيتو في أنغولا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعندما تعمل البنية التحتية للنقل بكامل طاقتها فإنها ستزيد من إمكانيات التصدير لزامبيا وأنغولا وجمهورية الكونجو الديمقراطية. وتعزيز التداول الإقليمي للسلع وتعزيز حركة المواطنين. كما الانخفاض الكبير في متوسط وقت النقل وانخفاض التكاليف اللوجستية وانبعاثات الكربون عند تصدير المعادن. وتشمل الاستراتيجية تطوير مشروعات الطاقة النظيفة ودعم الاستثمار المتنوع في “المعادن الحيوية”. وتوسيع الوصول الرقمي وزيادة سلاسل القيمة الزراعية. وكذلك تدريب القوى العاملة المحلية ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والتنويع الاقتصادي.
ولكن هناك بعض التحديات التي تواجه المبادرة الأمريكية لتطوير ممر لوبيتو، حيث إن السبق الذي حققته الصين في إفريقيا، سواء من حيث البنية التحتية الراسخة أو العلاقات الدبلوماسية، يشكل عقبة كبيرة أمام الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أسهمت مبادرة الحزام والطريق بالفعل في ترسيخ مكانة الصين كشريك يمكن الاعتماد عليه للدول الإفريقية التي تحتاج إلى تطوير البنية التحتية، ويتعين على الولايات المتحدة أن تعمل بجدية لبناء ثقة مماثلة.
يجب على الولايات المتحدة التعامل مع التعقيدات الجيوسياسية، والعلاقات التاريخية، والديناميكيات الإقليمية بعناية شديدة.
كما ترى الدول الإفريقية أن مشروع ممر لوبيتو يمكن أن يساعد في حل بعض التحديات التي تواجهها المنطقة، مثل الفقر وعدم المساواة، كما أنه من المتوقع أن يخلق المشروع وظائف جديدة ويحسن الوصول إلى الأسواق العالمية، وأن يعزز الأمن في المنطقة من خلال تسهيل التجارة والتنمية.