ممارسة التدريس(5 /10)
لغة التلاميذ
يتواصل التلاميذ فيما بينهم بلغة خاصة، حسب مستواهم الدراسي و محيطهم الاجتماعي و الثقافي. و هذه اللغة تتغير مفرداتها و يتغير منطقها و تركيبها كل حين و حين، و قد تتغير كل سنة بفعل التطورات المتسارعة و التغييرات الكبيرة التي طرأت و تطرأ على تركيبة المجتمع و طرق التواصل المعلوماتية، و التي أصبحت مؤثرة بشكل كبير على عقول الناشئة و تركيبتهم و متحكمة بشكل كبير في تواصلهم و أشكال تواصلهم.
و الممارس للتدريس تزداد عبر السنوات الفوارق العمرية بينه و بين تلامذته و يبتعد عن لغتهم و منطقهم دون أن ينتبه لذلك ( في الغالب ) و يفترض أن لغتهم هي نفسها التي كان عليها عندما كان في سن التمدرس أو هي نفسها التي صادفها في السنوات الأولى لممارسته للتدريس.
و كلما ابتعد عن هذه اللغة و عن متغيراتها و لم يقترب من مفرداتها و تركيبتها و لم يجدّد تعرّفه على مستجداتها سيصعب عليه التواصل الفعال المجدي، و إيصال أفكاره بالشكل الصحيح، و سيبني حائطاً صاداً مانعاً بينه و بينهم يحكي وراءه دون جدوى.
فالتعرف عليها و مسايرتها و مواكبتها تفيد في تجديد طرق التدريس و طرق إيصال الفكرة و طرق الشرح و الأهم من ذلك الإقناع الذي هو ركيزة أساسية معينة في الممارسة الناجحة السعيدة للتدريس، فكلما اقتنع التلميذ بأستاذه كلما كان إنصاته له أكثر.
و هذه اللغة التي نتحدث عنها تشمل مصطلحات و كلمات التحاور و التواصل بينهم و التي تتغير و تتبدل سواء كانت مصطلحات لغوية سليمة أو رموز تفيد معاني معينة أو كلمات سوقية تتداول في الأحياء و بين المراهقين، و تشمل كذلك منطق التواصل و كيف يفهم بعضهم الآخر و كيف يفهمون من الآخرين، فحاليا مثلا القدرة على التركيز تغيرت و لا يمكنهم تتبع جمل طويلة في الشرح و الكلام الكثير، بل ما يقدرون عليه هو جمل مختصرة مركزة مباشرة دون دعوة للاستنباط أو التركيب، فكل شرح مطول مستمر يفقدهم القدرة على التتبع و هذا لم يكن ساريا منذ عشر سنوات أو أكثر.
و تشمل كل مستجدات التواصل المعلوماتي و الذي أحدث لغة خاصة بتركيباتها و مفرداتها و مختصرات جملها، و كذا تأثير الحركة عن الجامد و تأثير المُشاهَد عن المسموع، فكثرة استعمالهم للشاشات الذكية في الهواتف و مشتقاتها جعلت تأثير الحركة و تأثير المُشاهد أكثر من تأثير ما يُسمع.
إن تعرف الممارس للتدريس على هذه الأشياء، و استحضار أهمية مواكبتها يقرّبه أكثر من مجتمع التلاميذ الذين يدرّس لهم و لا يبقيه في برج عالي يلقي منه المعلومات و المعارف دون إدراك بمدى تلقّفهم و تفاعلهم معها، كما أن تعرفه عليها يتيح له إيجاد الوسائل الفعالة لإيصال رسالته في خضمّ هذه المتغيرات الكثيرة و زحمة ما يشغل التلاميذ عن دراستهم.
قد تُتاح للأستاذ أن يسمع تحاور تلامذته فيما بينهم و طرق تواصلهم دون أن ينتبهوا لحضوره و هنا سيتعرف على عالم خاص قد يكون جديداً بشكل كامل عنه، و قد يمحي الصورة النمطية التي كانت عنده عنهم، كما أن إطلالةً على ما يدور في النّت بينهم تؤكد ما أسلفنا ذكره من اهتمامات خاصة متجددة و كلمات غريبة و منطق خاص و علاقات مركّبة و تصور خاص عن العالم و المحيط العائلي و محيط مؤسسة التدريس و الأساتذة، فكيف ينظرون إلى مدرّسيهم مجال كبير آخر يدخل في تركيبة لغتهم الخاصة.
التموضع في الحجرة الدراسية
يختلف التموضع الصحيح في القسم و طريقته حسب المستوى المُدرّس و حسب نوعية المادة و جنس الأستاذ و سنّه و حسب مسار الحصة الدراسية و مستجداتها اللحظية الآنية و كذا حسب احتياج ما يطرأ من جديد مفاجئ.
إلا أنه على العموم، فهو وسيلة هامة و فعّالة في ضبط القسم و في جلب انتباه التلاميذ و تركيزهم و في فعالية الشرح الحركي و خاصة عند استعمال السبورة و عند الكتابة عليها أو شرح ما فيها، أو متابعة ما يكتبه أحد التلاميذ عليها.
فإدارة الظهر كليا أو تغطية ما يُكتب على السبورة أو الوقوف ( كما الجلوس ) الطويل في مكان واحد و البقاء بعيدا عن التلاميذ طيلة الحصة أمور يُستحسن تجنبها عموما.
كما أن الحركة المتزنة و الوقوف المتّزن أثناء الشرح قد يكونا حافزا للتتبع أكثر إن كانا مدروسين بعناية. أما الانتباه لمن يسمع كلام الشرح، و من يكتب، و من هو شارد، فالتموضع الجيد يعين عليها.
و المرور بين الصفوف عملية ضرورية لتتبع ما يجري و يروج في مجتمع تلاميذ القسم و ما يُكتب و ما يُأخذ من السبورة.
و لا ننسى هنا ما للتموضع الصحيح من أهمية قصوى في حراسة الفروض و هو مجال سنفصل فيه فيما بعد إن شاء الله.
كثير من هذه الأمور يتأتّى التعرف عليها بتجربة الممارسة، أو عند معاينة أستاذ آخر في درس نموذجي مثلا، و هنا يحضرني ما علّق به أحد الأساتذة على آخر بعد نهاية حصة الدرس قائلا لماذا كنت تضع يدك في جيبك طيلة الحصة كما علّق آخر على آخر لماذا كنت واقفا إلى جانب مكتب الأستاذ طيلة الحصة مسنداً يدك عليها كأنك تحتمي بها ؟ و هذا حضرته في سنوات سالفة. فهي تصرفات قد تعكس خوفا أو وجلا أو أشياء أخرى.
كما يحضرني ما كان يفعله أحد أساتذة التكوين في مجال الديداكتيك حيث كنّا في المدرّج و كان يخاطبنا طيلة فترات الحصة و هو وراءنا و لم نفهم سبب ذلك، هل هو للتخوف من معاينة الطلبة وجها لوجه أو هو للتحكم فيما يجري بينهم، لكن على العموم لم يكن ذلك مستساغا رغم تقديرنا الكبير لذلك الاستاذ.
إن التحكم في التموضع الصحيح و التعرف عليه أمر مساعد على بناء شخصية سليمة للممارس للتدريس في نظر التلاميذ، و أمرٌ مساعدٌ على إنجاح الحصة الدراسية و التقليل من أتعابها البدنية، و هو من تقنيات التدريس التي يجب عدم إغفالها.
الفرض المحروس
من معالم مصداقية الممارس للتدريس، و مؤشر على كفاءة التعلم و على حِكمة الأستاذ و حنكته في اختيار المحتوى و توقيت الإنجاز و مدته و طريقة الحراسة و التصحيح.
إنه مِفصل محوري في ممارسة التدريس و تتقاطع حوله و فيه محاور كثيرة أسلفنا التفصيل فيها و أشرنا إليه فيها، كما يشكل مجالا للتقويم و التكوين في آن واحد في منظومتنا التربوية.
لقد كثرت النظريات حوله و أُنجِزَت دراسات كثيرة لتحسين نوعيته و التقليل من الجوانب السلبية المصاحبة له، سواء من حيث تكافؤ الفرص في الإنجاز و طريقة التصحيح و كذا تأثيره النفسي على التلاميذ و الإكراهات المترتبة عن ذلك.
على مدار المسار المهني للممارس تتغير المذكرات المنظمة و النظريات المطبّقة و المحاور المتحكّمة في التنظيم، و التي قد تدخل في تفاصيل النسب المئوية لأصناف الأسئلة و نوعيتها و حتى توقيت الإنجاز و توقيت التصحيح و أجزاء الدروس و عدد الفروض و نسب الاحتساب، لكن كل هذا يمكن مجاراته حسب المُستطاع و حسب ما يقبله المنطق السليم للممارس، و تبقى أمور هامة تحيط به لا بدّ منها:
* العدل في الحراسة و التصحيح و تجنب تفضيلٍ ظالمٍ أو محاباة مَعيبة ناتجة عن نفوذ أو قرابة أو تخوف أو غير ذلك، ففي ذلك يفقد الممارس كل مصداقية و تذهب جميع جهوده سُدى و يصير أسير فوضى و عدم تحكم، و لا يبقى له تأثير إيجابي على تلامذته.
* طريقة اختيار الأسئلة و عددها يكون منسجما مع المدة الزمنية ( فمثلا في الرياضيات في الثانوي التأهيلي المعدل هو سؤال في 6 دقائق ففرض محروس لمدة ساعتين يتضمن ما لا يتعدى 20 سؤال و هذا فقط قصد الاستئناس )
* محتوى الأسئلة منسجم مع التعاقد الذي تمّ مع التلاميذ قبل الإنجاز حول الدروس أو المحاور التي أُعلِمُوا عن إنجاز الفرض حولها
* تنقيط الأسئلة و مدى الصعوبة يختلف حسب المستويات و الشعب و المواد لكن على العموم فالمفروض أن لا يقل عدد الحاصلين على المعدل عن 50% أو 60% ( و هذا فقط للاستئناس ) و أن لا يكون تجمع كبير للنقط في مجال ضيق كأن يحصل جل التلاميذ على نقط بين 18 و 20 أو جلهم بين 5 و 10 و أن يكون الفرض عاكسا لمدى التعلم و يمكّن من ترتيب التلاميذ حسب مستواهم المعرفي و الدراسي و هنا تبرز حنكة الممارس و حرفيته و صنعته في اختيار الأسئلة و تنقيطها و طريقة الإعداد القبلي و طريقة تدريب التلاميذ على التعامل مع الفروض.
* فتح المجال لأسئلةٍ تكون في متناول الجميع تُبعد المتعثرين عن الصفر و تعطيهم أملا في التحسن.
* فتح المجال لأسئلةٍ للمتفوقين ليبرز تفوقهم و تُعطاهم فرصة لمزيد من الاجتهاد.
* تصحيح متوازن معتدل، و هنا يستحسن عدم إغفال و لو جزء من الجواب أو جزء من طريقة صحيحة في حقه من النقط و خاصة في الفروض الأولى لبعث الأمل و إنعاش الحضوض و التشجيع على تصحيح المسار.
* عدم إغلاق باب الحصول على 20/20 و خاصة في الرياضيات و تجنب وضع سؤال يحرم الجميع منها خاصة في المستويات التي تحتسب فيها النقطة في معدل البكالوريا و هذه عقلية كانت سائدة فيما مضى حيث كان لكل أستاذ حاجزه في النقط لا يتعداه أحد على اختلاف الأقسام و السنوات و مستوى التلاميذ و هذا أمر لا أحبذه شخصيا خاصة مع تغير طرق التقويم و مكونات امتحانات الباك التي أصبح معها التلاميذ قادرين على الحصول على 20/20 في الامتحان الوطني.
* طريقة الحراسة و النجاح فيها بأقل الأضرار و فعالية أفضل و سنفصل في بعض تقنياتها إن شاء الله في مقال مستقلّ
* إنجاز فرض منزلي قبل المحروس ( خاصة في الرياضيات) يكون مؤشرا على المحروس و إعدادا صحيحا له و سنفصل الحديث إن شاء الله عن الفرض المنزلي و طريقة إنجاحه لأهميته و جدواه في مقال مستقلّ.
* إعطاء نصائح قبلية حول طريقة الإعداد النفسية و الجسدية و طريقة التعامل مع الأسئلة و التعامل مع الوقت و مع الأسئلة المستعصية و التعثرات الطارئة أثناء الإنجاز.
* في حصة إعادة الأوراق المصحّحة يتمّ تصحيح بعض الأسئلة و تقديم خلاصة حول مستوى القسم و مستوى التقدم أو التأخر و إبراز الأخطاء التي من المفيد تصحيحها و بعد اللّوم ( إن كان ضروريا) أو التشجيع و التهنئة ( إن كانت ضرورية) يُستحسن دائما بعث الأمل للمتعثرين و تحفيز المتقدمين للمزيد من العطاء، و يمكن في حصة موالية أو عند نهاية الحصة التحدث بشكل منفرد أو خاص مع الحالات الخاصة كالمجتهد الذي حصل على نقطة متدنية أو الذي وقع له تعثر كبير أثناء حصة إجراء الفرض أو تزكية و تهنئة المتقدمين في عملهم و هذا له تأثير إيجابي كبير مجرّب.
* يمكن إجراء فرض استدراكي للذين لم يحصلوا مثلا على المعدل و تُحتسب أحسن نقطة بين الفرضين ما لم تتعدى المعدل فإن حصلوا على المعدّل تحتسب 10/20 و هذه التقنية مجرّبة و بعثت أملا كبيرا خاصة للذين تعودوا على نقط مجاورة ل 02/20 و جعلت كثيرا منهم يقبلون على المادة و يبذلون جهودا أكبر فيها و منهم من حصل على 16/20 في الاستدراكي و اعتبرها نقطة انطلاق جديدة في دراسته. إنه بعث أمل حقيقي و عملي و فعال و عادل على أن تكون الأسئلة مدروسةً بعناية بحيث تبرز التطبيق المباشر للمطلوب و تساعد طريقة ترتيبها و تحريرها على الحصول على نقط أفضل لأن الهدف هنا مختلف عن الفرض العادي و تسقيفه معروف و الفئة المستهدفة معروفة. و هذه التقنية يمكن تعميمها على القسم إن كان مستواه ضعيفا و هي مشروطة بظروف الممارس و حسب المستطاع من قابلية و وقت و مقرّر دراسي و علاقة مع التلاميذ.
* اعتبار الفرض المحروس تدريب حقيقي على الامتحان الإشهادي.
* ضرورة تحفيز التلاميذ على استحضار مجريات حصة الإنجاز للفرض بكل ما واكبها من تعثر و من تخبط و من خطأ و من نجاح فهو تجربة دراسية هامة يجب الاستفادة منها فيما يلي من تجارب.
إن كل ما ذكرته سابقا هو من تجربة شخصية و من معاينة حيّة و هو عصارة سنوات من الممارسة و من استحضار أهمية الفرض المحروس و محاولة التحسين المستمر من فعاليته و مصداقيته و من جدواه و الله الموفّق لما فيه الخير.