شوف تشوف

الرأي

ملاعبنا العائمة

كنا ونحن صغار ننتفض ضد الطبيعة كلما احتبس المطر وتأخر الغيث، وكانت انتفاضتنا احتفالية ونحن نطوف رفقة أبناء وبنات الجيران في دروب وأزقة سباتة وسيدي عثمان مرددين لازمة «تاغنجا تاغنجا ياربي تصب الشتا»، وحين تسقط الأمطار نردد ونحن في طريقنا إلى المدرسة موشح «أشتا تتا تتا.. أصبي صبي صبي»، قبل أن نكبر ونصطف في صلاة الاستسقاء التماسا للغيث كلما تأخر المطر وغابت غيمته عن نشرات أحوال الطقس اليومية.
كانت زخات المطر كافية لترسم على محيا الكبار والصغار ملامح الفرح، وتصبح بالمقابل امتحانا في النزاهة وحسن التدبير حين تزيد عن حدها. ما حصل في ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء وبعض شوارع العاصمة الاقتصادية مساء الثلاثاء أكد أن المطر هو المراقب العام لتدبير الشأن المحلي، وأن الإتقان خصلة غير متوفرة في الأسواق وأن الحكامة مجرد شيك بدون رصيد.
عندما اجتاحت المياه رقعة ملعب محمد الخامس، تذكرت السيول التي جرفت ملعب تزيرت في الجنوب المغربي، والمياه الغامرة التي حولت ملعب الأمير مولاي عبد الله إلى مستطيل عائم، والسيول التي اجتاحت ملعب البشير بالمحمدية، وملاعب أخرى قيل إن التحقيق قد فتح ولم يغلق.
يؤمن المحققون بأن نعمة النسيان التي وهبها الله لنا كفيلة بطي ملفات لطالما حولت ملاعبنا إلى مسابح، كما يؤمن المواطن بأن ملتمس محاسبة العابثين بالمال العام سيداهمه النوم قريبا بعد أن بسط سلطانه على الجفون، فالملايين التي صرفت كانت من جيوب النيام.
في قضية ملعب الرباط العائم، أو ما عرف بفضيحة «الكراطة» مسح الوزير المخلوع خطاياه في الآخرين، وغسل يديه من الصفقات ووضع في قاعة الاجتماع معطر الجو، وراح يلصق التهم في الغائبين ويوزع الابتسامات على الحاضرين. فقد تبرأ من الكراطة الكبيرة الحجم وقال إنها من متاع الاتحاد الدولي لكرة القدم، ولا علم له بوجودها في الملعب، لكنه اعترف ضمنيا بأن التدخل المغربي لتجفيف البرك تم بالسطل والبونج وهي معدات محلية صنعت في المغرب، فصفق له أعضاء حزبه وهنؤوه على تشجيعه للإنتاج الوطني، قبل أن يرددوا «السبولة عطشانة غيثها يا مولانا».
اليوم أصبحت رؤوس القائمين على تدبير «كازا إيفانت» مطلوبة، وجيوب منتخبي العاصمة الاقتصادية مطلوبة للتفتيش، قرارات اتهام جاهزة ومطالب بقطع ذراع سارق مواسير صرف المياه، لكن ما أن يجف العشب حتى ينهض حماة الأعراض من سباتهم وينشرون في الملعب البساط الأحمر استعدادا لاستقبال ولي صالح قيل إنه رئيس لجنة تقصي الحقائق القادم من قبة البرلمان.
سيمسح التقرير التهمة في توقعات النشرة الجوية وفي كمية الأمطار، وفي لاعبين لا يتوفرون على لوازم السباحة، وفي حكم جزائري أصر على قضاء ساعتين في بركة مياه، ضدا على مطالب توقيف المباراة بسبب قوة قاهرة، كما سيحاسب أعوان الخدمة لعدم توفرهم على مجفف مياه. لكن المطر بريء من التهمة يكفي أن نستعيد شريط مباراة نهائي كأس إفريقيا للمحليين لنقف على كمية الأمطار المتهاطلة والتي لم تصنع بركا أو ترسم سيولا.
كلما فتح ملعب أبوابه في فاتح أبريل، لا تصدقوا ما يقوله المدير العام عن التصفية الذاتية للمياه، فمع هطول المطر يحال الملعب على مركز تصفية ويمطروننا بالمبررات، علما أن شقة في سكن اقتصادي تضم أكثر من «قرقارة» تحسبا للبلل.
في هذه الملاعب التي صرفت عليها ملايين الدراهم، يمكن بساعة مطر ورذاذ متطاير أن تغوص كل الأحلام وتتبلل الطموحات وكأنها مكتوبة في ورق كراسة قديمة، لحسن الحظ أن قانون كورونا حكم علينا بمتابعة المباراة العائمة من بيوتنا في فرجة غريبة جعلتنا نبحث عن لاعبين يغوصون وسط البرك ولا يغرقون وحكم لا فرق بينه وبين «ميتر ناجور» شاطئ محروس.
الوعود الزائفة سحب بلا أمطار.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى