شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

مكاشفات العلماء والسياسيين رسائل بريدية صنعت تاريخ المغرب

والأدباء قبل أزيد من قرن

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

بعض المراسلات التي جمعت بين شخصيات مغربية، أو فرقت بينها أيضا، تحولت من مجرد رسائل بُعثت بالبريد أو في تلابيب السُعاة، إلى وثائق تاريخية، أصبحت بموجبها ملكا للمغاربة مواطنين ومؤرخين.. بعضها ضاع، وأخرى جار البحث عنها، بينما أغلبها جُمع أمام أعيننا في مجلدات نُسيت في الرفوف..».

 

+++++++++++++++++

رسائل المنفى.. كتابات راوغ بها المختار السوسي مضايقات الاستعمار

لم يكن المختار السوسي، بإجماع من عرفوه عن قرب، من المعجبين بمظاهر الحياة العصرية، بل كان ميالا إلى الالتزام بكل ما هو تقليدي، في أغلب جوانب حياته. بل إنه كان يتضايق مرات كثيرة من استعمال جهاز الهاتف، ويفضل أن يراسل من يعرفهم كتابة، إيمانا منه بأن ما يُكتب يبقى، بينما الكلام يذهب أدراج الرياح.

عندما تضايقت فرنسا من أنشطة المختار السوسي في مراكش، قبل سنة 1950، ولاحقته حتى في الدار البيضاء، خصوصا وأن مجالسه العلمية في التعليم العتيق، كانت تتحول إلى اجتماعات للإشادة بالوطنيين ومواقف الحركة الوطنية، فقد قرر الحاكم العسكري في مراكش أن يحد من أنشطة المختار السوسي بإبعاده، بعد محاولات للتضييق عليه، بدأت منذ 1937، عندما قررت فرنسا في 11 مارس من تلك السنة، أن تنفيه عن مراكش إلى مسقط رأسه بإيليغ.

لكن القرار الفرنسي كان أكبر خِدمة قدمت للمختار السوسي، إذ إنه استغل فترة المنع التي عانى منها، في جمع وثائق المادة العلمية التي اشتغل عليها في عدد من مراجعه التاريخية التي ما زالت معتمدة إلى اليوم.

يقول عنه الباحث المغربي محمد خليل، في نص مداخلته بإحدى الندوات التي نُظمت تكريما لذكرى المختار السوسي، في غشت 1986، ما يلي:

«ولما حل (يقصد المختار السوسي) بمراكش، وبعد تأسيسه مدرسة الرميلة التي كانت في الأصل زاوية للطريقة الدرقاوية، سعى إلى الاتصال بنخبة من علماء مراكش الذين كانوا أساتذة بكلية ابن يوسف، فأقنعهم بالسير على خطته، وتم في ظرف بضعة شهور من حلوله بهذه المدينة إنشاء سبع مدارس علمية على غرار مدرسته بحي الرميلة، وارتفع هذا العدد عند نفيه من مراكش- بعد حوالي ثماني سنوات- إلى أزيد من عشر مدارس.
ولم يقتصر جهده على السعي إلى تأسيس المدارس العلمية داخل مدينة مراكش فحسب، بل تعداه إلى المناطق المجاورة فكان يتصل بقادة ورؤساء القبائل، ليحثهم على ذلك، حيث لقيت دعوته استجابة عدد من هؤلاء الرؤساء في حاحة وعبدة والرحامنة (32)، وكان ينتدب لتلك المدارس تلاميذه النجباء الذين يأنس فيهم مقدرة على نشر أفكاره من خلال تلك المدارس.
وفي سنوات الأربعينيات ترأس بمراكش لجنة بناء مجموعة مدارس ابن دغوغ بروض العروس، والتي صارت تعرف في ما بعد بمدارس محمد الخامس الذي تفضل – رحمه الله- فترأس حفل تدشينها، في شهر أبريل سنة 1950.
وفي السنة الأولى من عهد الاستقلال سعى إلى تأسيس المعهد الإسلامي بتارودانت، الذي صار يعرف في ما بعد: بمعهد محمد الخامس، ثم بثانوية محمد الخامس للتعليم الأصيل، وهذه المؤسسة العلمية العتيقة فتحت أبوابها في أكتوبر 1956، وفي ظرف وجيز صارت لها فروع في سوس ونواحي الصويرة، ونواحي ورزازات، وكانت تحتضن في أوائل سنوات الستينيات أزيد من 2000 تلميذ، يتلقون دراستهم في نظام داخلي، على يد أساتذة معظمهم من قدماء تلاميذ محمد المختار السوسي، بمدرسة الرميلة بمراكش».

تدبير هذه المدارس كلها، حسب ما جاء في الشهادة، لم يكن ممكنا نهائيا، لولا تبادل السوسي الرسائل مع المشرفين عليها من شخصيات في الحركة الوطنية، وعلماء من منطقة سوس ومراكش.

 

مراسلات الوزاني، بن بركة، بوعبيد، البكاي وآخرين

إذا كان جيل العلماء وأعضاء الحركة الوطنية من الرعيل السلفي الأول، الذي بدأه كل من أبي شعيب الدكالي وتقي الدين الهلالي -هذا الأخير خلّف وراءه بعد وفاته سنة 1987 رسائل بعث بها إلى المغرب من دول كثيرة، أثناء سفرياته شرقا، وصولا إلى باكستان وأفغانستان والهند، وغربا في بريطانيا وألمانيا التي درس فيها ودرّس في جامعاتها- وصولا إلى علال الفاسي وآخرين، يعتمدون في مراسلاتهم على اللغة القديمة والتعابير العتيقة، فإن جيلا آخر من المغاربة أمثال عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، والذين تربوا مع بداية العشرينيات وخالطوا الفرنسيين في المدارس، كان لهم أسلوب آخر في تبادل الرسائل.

محمد بن الحسن الوزاني، بحكم دراسته في باريس منذ بداية الثلاثينيات، كتب رسائل كثيرة إلى الشرق والغرب، وبعضها كان باللغة الفرنسية، خصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية عندما كان يحضر الدكتوراه في العلوم السياسية. وخلف الوزاني أرشيفا مهما من الرسائل، بعضها تبادلها مع الملك الراحل محمد الخامس يستأذنه فيها لكي يتواصل مع وزراء خارجية دول عربية سبقت المغرب إلى الاستقلال، مثل العراق ومصر. وكان غريمه التقليدي، علال الفاسي، الذي جمعته به الحركة الوطنية قبل أن تفرقهما السياسة، في دائرة الرسائل المتبادلة أيضا، رغم أن بعض تلك الرسائل ضاعت ولم يتم توثيقها.

علال الفاسي الذي نُفي إلى الغابون وعاش هناك بداية أربعينيات القرن الماضي، كانت فرنسا تضرب حصارا كبيرا على بريده الشخصي، وتفتش رسائله، حتى العائلية منها، سطرا سطرا. وقد ذكر في مذكراته بنفسه أن فرنسا كانت تمنع وصول رسائله إلى والده في فاس، رغم أنها رسائل لم تكن سياسية نهائيا، بل بوحا عاطفيا بينه وبين والده وبينه وبين زوجته.

أما المهدي بن بركة الذي نفي بدوره إلى جنوب المغرب الشرقي، فقد كانت رسائله باللغة الفرنسية مراقبة من طرف الفرنسيين، ومنعوا أغلبها وصادروا عددا منها، رغم احتجاجات بن بركة ومراسلاته لاحقا لمسؤولين سابقين لكي يخبروه بمصيرها.

عبد الرحيم بوعبيد كتب رسائل كثيرة بالفرنسية أيضا إلى محاميه، عندما جرى اعتقاله في مناسبات متفرقة، منذ أول نشاط سياسي له عقب الظهير البربري سنة 1933، وصولا إلى بداية الخمسينيات.

أما البكاي ولد امبارك الهبيل، الذي دخل التاريخ باعتباره أول مغربي يجلس على كرسي الوزارة الأولى في مغرب الاستقلال ، فقد ترك بدوره رسائل غاية في الأهمية، توثق لأحداث مهمة في تاريخ المغرب.

إذ إن البكاي الذي أمضى فترة الجندية مع الجيش الفرنسي وعاش الحرب العالمية الثانية في قلب الميدان، تبادل رسائل كثيرة مع أعضاء الحكومة الفرنسية، منذ أن قرر الدخول إلى المغرب، خصوصا عندما أصبح باشا لمدينة صفرو. إذ كانت هناك مساع لجره إلى تيار التضييق على الملك الراحل محمد الخامس منذ 1950. لكن رسائله تشهد على موقفه الذي حاول من خلاله الابتعاد عن لعب دور «الأداة» في يد الإقامة العامة. وحتى عندما ضايقه الفرنسيون، بسبب رفضه، فقد كتب رسائل أنيقة، بفرنسية تعلمها على يد الفرنسيين وفي مدارسهم المغربية التي أنشئت في المغرب في سياق 1920، يشرح فيها موقفه ويذكر فيها موظفي الإقامة العامة ووزير الخارجية الفرنسي، بالخدمات التي أسداها إلى جيش فرنسا في أحلك ظروف الجمهورية الفرنسية. وتصبح رسائله الشخصية، بموجب مضامينها، وثائق تاريخية تستحق فعلا أن يُسلط عليها الضوء لفهم الكثير من الأحداث والمحطات التاريخية قبل استقلال المغرب، خصوصا وأن البكاي تبادل رسائل مع الأمير مولاي الحسن، عندما رافق والده الملك الراحل محمد الخامس في منفاه.

 

+++++++++++++++++

مولاي سليمان لموظفيه: «لولاكم لما فسدت البلاد»

هذا السلطان الذي حكم المغرب، ترك رسائل كثيرة تعود إلى الفترة ما بين 1760 و1822. وهي فترة شائكة، ومثيرة في آن، من تاريخ المغرب.

في الرسالة التي تحمل الرقم 29، جاء توبيخ سلطاني إلى أحد الفقهاء – لم يشفع له عند السلطان أنه ولي صالح- الذين كلفهم السلطان بمهام تدبير الشؤون. وقد جاء فيها:

«إلى الولي الصالح، الفقيه المرابط، السيد العربي بن المعطي، الذي لا تزال فراستنا فيه تصيب ولا تخطئ. جعلنا الله وإياكم ممن لم يتخذ إلاهه هواه،

سلام عليك ورحمة الله».

وبعد التقديم الضروري في الرسائل السلطانية، والتذكير بالآيات والنصوص التي توجب طاعة الحاكم وحجم المسؤولية، خاطبه بما يلي:

«(..) ومن خرج قيد شبر عن الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، فلا تك في سكرة الخواطر الكاذبة، عما عليك للسلطان من الحقوق الواجبة، لقد جئت شيئا فريا، ونبذت عهد الله وراءك ظهريا، فأين العهد والميثاق، والقوي يأكل الضعيف بين ظهرانيكم في الأسواق؟ بل لولاك ما فسدت تلك البلاد، ولا خرج أهلها عن طريق الرشاد، حتى شاركت في الدماء شعرت أو لم تشعر، فيا خسارة من يريد الربح ولا يدرك أن يتجر، أناشدك الله إن كان ذلك، فأنت أعرف الناس بما هنالك، ولا يسعك الإنكار، والأمر أوضح من شمس النهار.

(..)

طلبنا منكم ما فيه عند الله نجاتكم، وهو في الحقيقة لأنفسكم الميتة حياتكم، من الخروج معنى عن أسواق العامة التي لا يعمرها من له المروءة التامة، والخروج حسا إلى مدينة فاس، واشتغالكم بالله ودينه القويم عن الناس، فما قدرتم عن التقصي عن العامة، ولا رجعتم عن مكاتبة الحكام والخوض في الفتنة الطامة، وكنتم طلبتم الذهاب هناك لتفقد زرعكم وضرعكم، ونقل أولادكم إن أذن لكم، على أنه خرج بسببكم من تعلمون، وأنهم ما وقع لهم في رقبة من تظنون، فذهبتم وقر لكم القرار، بعد ما وعدتم أن ترجعوا في أيام قصار.. واغتنمتموها لكم فرصة، بإقامتكم وقد خرج من كانت عليكم منهم غصة، وأظهرتم التهاون بكلام من وجب عليكم طاعته».

ختم السلطان مولاي سليمان رسالته مخيرا الموجهة إليه بين الامتثال، أو العزل الفوري من المنصب، بلغة لا تخلو من حزم. وهذه الرسالة ليست إلا مثالا على حزم رسائل أخرى، كان السلطان مولاي سليمان، الحاكم العالم بشهادة من عاصروه، يشرف على كتابتها بنفسه، ويملي كلماتها بدقة.

 

 

 

أبو بكر القادري.. رسائل «فكرية» وعائلية وثقت لمغرب الحماية

بحكم أن أبا بكر القادري وُلد عامين بعد معاهدة الحماية الفرنسية، فقد كان قدره أن ينتمي إلى جيل العلماء الذين رأوا النور في ظل سياق فرض الإدارة الفرنسية قوانينها على المغرب.

ينتمي القادري إلى أسرة من الأسر الأندلسية التي غادرت مع سقوط الأندلس، نجا أجداده من محاكم التفتيش بأعجوبة، قبل قرون خلت، ليحطوا الرحال في سلا، ويصبحوا في فترة زمنية قصيرة على رأس الأسر، التي رسمت ملامح المجتمع العِلمي للمدينة.

والد أبي بكر القادري عُين قاضيا على سلا، بموجب ظهير أصدره السلطان المولى عبد الحفيظ، لكن الوالد اشتهر بين السلويين، ليس بجلوسه على كرسي القضاء، ولكن باعتذاره عن المنصب.

كانت حياة أبي بكر القادري لتكون عادية، لولا أنه اختار أن يكون من بين أوائل المغاربة الذين اختاروا في عشرينيات القرن الماضي، ولوج مدارس الحماية لتعلم اللغة الفرنسية. انخراطه في صفوف الحركة الوطنية، جعله يحجز مبكرا مقعده في الصف الأول للحركة النضالية والثقافية لمغرب الثلاثينيات والأربعينيات.

تبقى رسائل أبي بكر القادري إلى أصدقائه من رموز الحركة الوطنية، خصوصا في سنوات التضييق، كنزا من الأرشيف الذي يمكن استثماره في التوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب، سيما وأنه ساهم في تأسيس المدارس الحرة الأولى التي رفضت سيطرة فرنسا على مناهج التدريس.

بعض رسائل أبي بكر القادري، وجدت طريقها إلى النشر في المجلات والدوريات العلمية والثقافية التي كانت تصدر في المغرب، قبل قرابة سبعين سنة.

وقد ذكر القادري نفسه كيف أن الرسائل لعبت دورا كبيرا في التواصل بين رموز الحركة الوطنية، خصوصا في أربعينيات القرن الماضي، عندما فرضت الإقامة العامة نفي قادة الحركة الوطنية وتوزيعهم على الخريطة لإبعادهم.

من بين الرسائل الفكرية لأبي بكر القادري، تلك التي كتبها، ثم نُشرت لاحقا في مقدمة كتاب جمع فيه القادري رسائله إلى مجلات في الشرق، ومداخلاته في ندوات فكرية في خمسينيات القرن الماضي. يقول فيها:

«نحن في عصر يمكن أن يُدعي بحق النسبة لمجتمعنا الاسلامي عصر التقليد والتبعية، فنحن نشعر بالأزمة المستعصية التي تعاني منها شعوبنا، ونتألم لتخلفنا عن الركب الحضاري، ونريد أن ننهض ونسير كما سار أسلافنا من قبل، وكما تسير الأمم الناهضة اليوم، ولكننا لا زلنا لم نهتد إلى الطريق السليم..
لقد تسلطت علينا عوامل الهدم من جميع الجهات فهدت من كياننا، وحطمت من قوانا، وشككنا في أنفسنا، في قيمنا، في أصول ثقافتنا، في الأسس التي تبنى عليها نهضتنا، نحن نتطلع إلى الخلاص، الخلاص من الجهل، الخلاص من التخلف، الخلاص من التفكك الذي أصاب جسمنا فنخره وحطمه على مبعث قوة، الخلاص من الرواسب الاستعمارية التي لازالت سمومها وأفاعيلها تعمل عملها في مجتمعتا، سموم لا تتجلى في ميدان واحد من ميادين حياتنا ولكنها تعم الجميع..
إننا نبحث عن الحل، ولكننا لا نسير في الطريق التي توصلنا إليه، السبب وحيد، هو عقده التقليد والتبعية التي أخذت بتلابيبنا، فأصبح بحثنا يسير في المهيع الذي خططه لنا من كانوا سببا في تقهقرنا واستعمارنا..».

من رسائله الشخصية، نورد هنا رسالة كتبها إلى ولده يظهر فيها الجانب الشخصي من حياة القادري. يقول فيها:

«ابني البار

أصلحك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..
بعد أربعة أيام، ستكون اجتزت سبعا وعشرين سنة من عمرك الطويل إن شاء الله، وجريا على العادة المتبعة معك منذ أن عشت خارج المغرب، أكتب إليك مهنئا ومتمنيا من الله أن يوفقك في حياتك… لقد شاءت القدرة الإلهية أن تكون رسالتي إليك بهذه المناسبة السعيدة من المدينة المنورة.. ومن يدري فلعل الأقدار ساقتني إلى هذه البقاع، لتكون من جملة الأعمال التي أقوم بها مخاطبتك وأنا بجوار النبي محمد… والواقع يا ولدي أنني مدفوع دفعا للكتابة إليك في هذا الموضوع، والواقع كذلك أنني أشعر بأنه أكون خنت الأمانة لذا لم أفعل، وإذا لم أتحدث إليك بما يختلج وجداني، وما تحدث به نفسي وما يدفعني إليه ضميري هذا الضمير الذي أنبني كثيرا وسيؤنبني أكثر إذا لم أفعل، وإذا لم أقم بواجب النصح إليك ودعائك إلى السبيل الذي أود لك في الحياة..
لقد عشت يا ولدي سنوات طوالا خارج المغرب، واستطعت دون شك أن تتعرف إلى كثير من الآراء والمذاهب والنظريات، كما أمكنك التعرف إلى كثير من الشخصيات من مختلف الأجناس والألوان، ولا شك أن اتصالاتك أفادتك كثيرا، وعلمتك كثيرا من هؤلاء اتبعوا طريق الهوى عن وعي وعلم، وأن آخرين انساقوا تابعين مقلدين، وأن غير هؤلاء وأولئك ثاروا على مظالم أو مذهب أو معتقدات عملت على استغلالهم وطمس حقيقتهم..».

 

رسالتان للگلاوي.. الأولى إلى مولاي يوسف لطلب الإنصاف والثانية «تودد» فيها للأجانب

بحكم أن الباشا الكلاوي، الذي عاش حياة مديدة حافلة بالأحداث، كان صديقا لكبار الشخصيات العالمية، من رؤساء دول وعسكريين فرنسيين وأمريكيين، وحتى فنانين وسينمائيين، فإن خزانة الباشا كانت تعج بالرسائل التي توصل بها من شخصيات عالمية مثل رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، وحتى «شارلي شابلن»، أيقونة الشاشة في القرن العشرين وإحدى أساطير الفن حول العالم.

لنبدأ أولا برسائل الباشا إلى السلاطين. فقد عاصر كلا من مولاي يوسف، لكنه لم يتبادل معه الرسائل، لكنه اشتغل تحت إمرة أخيه الأكبر المدني، بإشراف من السلطان مولاي يوسف الذي عهد لأسرة الباشا بمهام تنظيم شؤون القبائل في مراكش منذ 1912، بعدما أبانت عائلة «كلاوة» عن هيمنتها على الأطلس، أيام المولى عبد الحفيظ.

لكن في عشرينيات القرن الماضي، ترقى الباشا بعد وفاة أخيه سنة 1918 وأصبح المخاطب الرسمي للسلطان مولاي يوسف باسم «كلاوة».

ومع سيدي محمد بن يوسف (الملك الراحل محمد الخامس)، كان خيط الرسائل ممدودا بين الرباط ومراكش، إلى أن تسببت مواقف الكلاوية الموالية لفرنسا في انقطاع اتصاله مع القصر الملكي، ويتخذ الكلاوي مواقفه المعادية لمحمد الخامس سنة 1953.

في واحدة من الرسائل النادرة يظهر فيها تقدير الكلاوي للسلطان مولاي يوسف، طلب تدخله لإنصاف الباشا من «ألسنة وسياط» الصحافة الفرنسية، كتب الباشا يقول:

«لقد حصلت على تقدير جلالتكم، ووشحتموني بأوسمة عن خدماتي المتكاملة، كما أن فرنسا أيضا وشحتني بأوسمة متعددة وسامية.

وواصلت العمل قدر ما أستطيع، لاستكمال مهمتي النبيلة، والتي كانت مصدر فخر لي ولعائلتي. ولن يزيدها الزمن إلا سموا وتقديرا.

لكن رغم كل هذا يا صاحب الجلالة، فإن بعض الصحف مثل «باريس تريبين» وجرائد أخرى اصطفت لمواجهتي ومهاجمتي، واستهدفت شرفي بنية الإساءة إليّ باتهامات لا يستطيع أي شخص يحترم نفسه أن يوجهها لإنسان آخر.

لكن أكثر ما آلمني يا صاحب الجلالة، هو أن الذين يكتبون في تلك الجرائد لا يعرفونني ولا يعرفون شخصيتي، لذلك لم أجد سببا يجعلهم يهاجمونني بتلك الطريقة.

لكن «غوستاف بابين» الذي ارتكب جريمة مهاجمتي والطعن في شرفي، فقد أجبرته على الاعتذار لي من خلال طلب قدمته إلى المحكمة، لكنه في المقابل عاد لمهاجمتي بشكل أكبر من خلال مقالات وأعمدة كتبها لتلك الصحف وكتب كتابا عنّي كله كذب وبهتان، تجعل كل من قرأها يحقد عليّ شخصيا.

هذه الاتهامات أضرت كثيرا بشرفي وبشرف عائلتي(..)

لقد قمت بالخطوات اللازمة لأطلب من العدالة إنصافي من خلال المحاكم الفرنسية المشهورة، وكتبت شكاية للمقيم العام، والتي وضعت نسخة منها رهن إشارة جلالتكم، والتي طلبت منهم فيها أن يوجهوا شكايتي أيضا إلى الجهات الرسمية والتي أعني بها حكومة جلالتكم، لكي تصل الشكاية إلى أكبر عدد من المسؤولين.

أحيي من الأعماق جلالتكم نصركم الله

الحاج التهامي الكلاوي. باشا مراكش».

في الأرشيف العائلي، احتفظ الراحل عبد الصادق الكلاوي، ابن الباشا، بالرسائل التي كان يتبادلها والده مع الإقامة العامة الفرنسية في الرباط، ووزراء خارجية فرنسا، وأصدقائه من المشاهير، أمثال تشرشل الذي واساه في رسالة تاريخية، لأن الملكة إليزابيث رفضت هدية ثمينة من الباشا في عيد جلوسها على العرش، بالإضافة إلى رسائل أخرى من نجوم عالميين وجهوا فيها دعوات إلى الباشا لحضور العرض الأول لأفلامهم في باريس، وحضور حفلات عائلية أخرى مثل حفلات الزفاف.

 

 

من أخفى رسائل محمد عبد الكريم الخطابي؟

هل يمكن أن تكون هناك رسائل مُحرجة لبعض السياسيين المغاربة في خمسينيات القرن الماضي، وقعها المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي؟

بعض الذين طرحنا عليهم هذا السؤال فضلوا الإجابة بطريقة أخرى. وهذا مثال واحد فقط على الأجوبة التي رددت صدى السؤال: «أن محمد عبد الكريم الخطابي غادر المغرب مع نهاية العشرينيات. وبالتالي فإن كل موقف يعبر عنه بخصوص المغرب، من القاهرة، ليس سوى تفاعل – بحسن نية ووطنية- مع الأحداث والمعلومات التي يروي له زواره المغاربة بعض تفاصيلها. وبالتالي فإن مواقفه المعلنة في بعض رسائله، من شخصيات وطنية، بُنيت أساسا على المعلومات التي توصل بها من ضيوفه، أو ما اطلع عليه في الصحف الصادرة في ذلك الوقت، قبل وفاته بداية الستينيات، والتي قد تكون تضمنت مقالاتها معلومات غير دقيقة، لكن الخطابي بنى عليها مواقفه».

عندما يتعلق الأمر بالرسالة التي قيل إن الخطابي وجهها إلى علال الفاسي، والتي يُشكك بعض الباحثين في وجودها أصلا، فإن الخيوط تتداخل وتصل درجة الالتباس.

تعود تفاصيل القضية إلى الخلاف الذي وقع بين علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني، وكلاهما زعيمان وطنيان. الأول أسس حزب الاستقلال، والثاني أسس حزب الشورى والاستقلال. ومنذ بداية أربعينيات القرن الماضي، لم تكن العلاقات بينهما على ما يرام.

ووصل إلى علم الخطابي مرة، أن علال الفاسي تدخل حتى لا يمنح السفير الأمريكي في الرباط تأشيرة للوزاني لحضور أحد الملتقيات في الولايات المتحدة للحديث عن القضية المغربية أيام الحماية، بذريعة أن الوزاني «شيوعي». إذ إن أمريكا وقتها كانت تحارب الشيوعية منذ الأربعينيات. وهاجم الخطابي علال الفاسي، وكتب رسالة إلى السفير الأمريكي في الرباط يكذب فيها أن يكون الوزاني شيوعيا.

لكن أقوى الرسائل التي بعث بها محمد عبد الكريم الخطابي إلى معارفه في المغرب، تلك التي تضمنت معلومات بالأرقام، وتحمل لائحة بأسماء المختطفين، بسبب الصراعات الحزبية في المغرب بعد 1956. وقد تفاجأ الكثيرون لامتلاك الخطابي، من منفاه في القاهرة، معلومات بتلك الدقة والتفصيل. واتضح لاحقا أن بعض المناضلين الهاربين إلى الخارج، زاروه وقدموا إليه لائحة بأسماء زملائهم، فما كان من الخطابي إلا أن بعث رسالة يستنكر فيها تلك الاختطافات ويعلن عن المعلومات التي توصل بها، في وقت كان مجرد تداولها في المغرب قد يعرض صاحبه للاختطاف.

من بين الرسائل التي توثق لبعض الأحداث من حياة محمد عبد الكريم الخطابي، تلك التي تتعلق بتواصله مع أصدقائه من أيام حرب الريف ضد الاستعمار الإسباني، في عشرينيات القرن الماضي.

بحكم أن قرار نفيه إلى الخارج كان بهدف التفرقة بينه وبين رفاقه في الحرب، فإن المراسلات كانت الطريقة الوحيدة للوقوف في وجه السياسة الاستعمارية التي فرضت عليه. وقد وفرت القاهرة لمحمد عبد الكريم الخطابي كل وسائل تسهيل مراسلاته في اتجاه المغرب. حتى أن بعض الرسائل حملها بعض زواره في القاهرة معهم إلى المغرب سرا، وأوصلوها إلى من يعنيهم أمرها بشكل مباشر، وأبرزهم رفيقه في النضال، بوجيبار، الذي نُفي بدوره من منطقة الريف إلى منطقة الجديدة.

وبحكم التكتم الشديد على أرشيف محمد عبد الكريم الخطابي الشخصي، فإن بعض المراسلات ربما لن ترى النور نهائيا، بينما وُلدت أخرى من الفراغ، وادعى من فبركوا محتواها، أنها موجودة بالفعل لدى من جمعوا بعضا مما تفرق من أرشيف الخطابي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى