شوف تشوف

الرأي

مقهى الإنسانية

بريكي
المقهى الجديد بجانب بيتي يفتح أبوابه باكرا جدا متربصا بالموظفين والعمال والحيارى، أتوجه كل صباح محملة بأغراض كثيرة لا أستعمل غالبها. حقيبتي دائما ضخمة تضم أي شيء، وكل شيء. مساحيق التجميل، كتب الطب والأدب، أقلام ملونة، ملابس داخلية، عطور وماء والكثير من الفواتير والأدوية والدبابيس. أحمل كل شيء يمكن أن أحتاجه خلال يومي الطويل، لا أحد يستطيع التنبؤ بما يمكن أن يقع. الخروج من البيت مغامرة غير مضمونة، أستعد لها جيدا.
الجلوس على طاولة مقهى لطيف صباحا تجربة تستهويني دائما، فيروز تغني لرحبانها وأنا أنتظر فنجانا ساخنا يعيدني للواقع.
رجل خمسيني يقف على آلة صنع القهوة الضخمة، يعد لي المشروب الأسود بلطف بالغ وتفان أفتقده في عملي على الدوام، يسألني عن حالي كل صباح فأكتفي بجواب إيجابي بسيط. ماذا لو أخبرته يوما أني لست بخير، هل سيترك آلته ويجلس بجانبي ليستفسر عن السبب؟ لا أظن. الناس يمضون من حولي وبرودة الجو تذكرني بوجوب المغادرة. فأغادر.
تحكمنا قوانين تفوق قدرتنا البسيطة والتافهة أحيانا في تحديد كيف يجب أن نواجه الآخر، أن نتواصل معه، أن نحبه أو أن نكرهه. ككائنات تُحشى بقيم لا تلائم وقتها وأخلاق تعود لعصور غابرة سواء في المدارس أوالبيوت والشوارع، اعتدنا تحديد الكائن المناسب لنا انطلاقا من اعتقاداته الخاصة وطريقة عيشه. فنوالي المتدين إن كنا كذلك ونساند المتحرر إن انسجم هواه بهوانا.
لفترة طويلة من عمري المهرول كغزال يلاحقه نمر جائع، وضعت قانونا غريبا عقيما أحمي به خرافات الصبا وعقد الأنثى المنتمية لبقعة جغرافية تحملني مسؤولية جميع مصائبها.
الخوف القاتل الذي طالما كبح كل رغباتي باكتشاف الجانب الآخر، الخوف من الموت أثناء التواجد بالجانب الآخر. والخاتمة، بحسنها وسيئها، التي تعتلي ظهري وتشد اللجام المثبت داخل فمي. لقد اعتدت أن لا أقترب، حتى لا أغرق. ثم أنتهي مذمومة مدحورة كما انتهى فرعون وهامان. صانع القهوة الذي يلاطفني كل صباح ومساء يجهل تماما بما أفكر، وأجهل أنا أيضا بأي شيء يؤمن. لا أدري إن كان شيوعيا يحن لماركس أو قوميا أو إسلاميا يتحسر على عهد الإخوان. هو أيضا لا يدري شيئا عن النسوية الغاضبة بداخلي ولا عن الشك الذي يعبد طريقي ولا عن كل خيباتي التي أوصلتي إلى مقهاه منهكة، وبين يدي رواية تحكي حياة صوفي وزاهد بأحياء إشبيلية. هو يدندن مع مطربة أمريكية تحرك مؤخرتها بإتقان ولؤم. وأنا أردد أبياتا كتبت لمن سلبت لب الصوفي وعقله. تجمعنا القهوة وابتسامات خاطفة. بل الأصح تجمعنا الإنسانية التي ننتمي لها بغض النظر عن الخاتمة كيف ستكون.
العلاقات الإنسانية معقدة بشكل جميل جدا، تجعلني دائما أضع أحمالي وأسفاري وأهيم بها، أتأمل هذا المخلوق الذي تفوق على بقية الكائنات فأسس لنفسه نُظما ومشاعر وقواعد تحكم علاقاته بشبيهه، بنسخته التي ينام كما تنام ويأكل كما تأكل ويعاشر كما تعاشر ويبكي كما تبكي ويضحك كما تضحك. لا فرق بين قديس وزنديق ولا بين يميني ويساري عندما يختلي كل بحبيبته، يحبون ويداعبون بالطريقة نفسها ثم ينامون جميعا كأطفال يحتضنون أمهاتهم بالهدوء نفسه.
يتوارث الإنسان الخوف، ينقله من جيل لآخر ويحرص عليه حتى لا تتسلل طفرة لسلالته، يتمنى جاهدا أو يعادي ابنه وحفيده الأشخاص الذين عاداهم هو والأفكار التي رفضها هو. يعتقد أن سلالته امتداد له ولهلوساته، يغضب إذا أحس عصيانا فيتملكه شعور الخيانة والعار. أبناؤه ملكه يحبون ما يحب ويكرهون ما يكره. ثم يأتي جيل لا يدري لأي شيء يعادي بعضه البعض، ولا لم يتبادلون اللعنات والكره والطعنات. كل ما في الأمر أن الجد السابع الذي استيقظ غاضبا في صباح ساخن قاحل قرر أن يورث سلالته، بدل الأملاك والدواب، الحمية والعداء.
أنهي القهوة الرائعة وألتفت لصانعها شاكرة. يومئ برأسه أن التحية قد أصابت هدفها. فأرحل حاملة بهجة عارمة تكاد تكفيني اليوم كله.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى