بقلم: خالص جلبي
لا يمارس الجهاد بشقه المسلح ضد من «لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم». ويتفرع من هذا أمر جوهري، أن الجهاد ليس (للدفع) وليس (للطلب) كما يقسمه بعض الفقهاء، مثل القرضاوي، بل هو محدود بوظيفة واضحة وهي رفع الظلم عن الإنسان «أذن للذين يقاتلون بأنهم (ظلموا) وإن الله على نصرهم لقدير». بكلمة ثانية الجهاد هو دعوة لإقامة حلف عالمي، لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان. وينبني على تحرير هذه النقطة، أننا نضع أيدينا مع الكفار أو المسلمين (العادلين) ضد (الظالمين)، مسلمين كانوا أم كافرين. وهو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في (حلف الفضول)، الذي كان في الجاهلية للدفاع عن المضطهدين أنه «لو دعي له في الإسلام لأجاب». ونفهم مما مر أمرا حيويا أن الجهاد ليس (وظيفة) فردية، بل هو مهمة (اجتماعية) مناطة بدولة وصلت إلى الحكم برضا الناس. ولا يسمى الجهاد من قام بتفجير نفسه كما يفعل الانتحاريون، وهذا لا علاقة له بالجهاد، وإنما هي أساليب تقوم بها جماعات شاذة؛ أما (الجهاد) الذي شرعه الأنبياء فهو (أداة) و(وظيفة) بيد دولة راشدية تحكم بانتخاب الناس لها، بدون تزوير ونتائج انتخابات 99 في المائة. وتمارس رفع الظلم بالتعاون مع أية قوة عادلة، حينما ترى أنه لا بد من معالجة المرض بالجراحة. كما يعرف الأطباء ذلك في معالجة انفجار الزائدة الدودية الحاد، أو نزف الشريان الصاعق. والجهاد بشقه المسلح يشبه الجراحة في الطب، فيه دم ونزف وموت، ولكن يجب أن نعلم أن الجراحة في الطب تتقلص يوما بعد يوم. ونحن اليوم نستخدم جراحة المناظير بدون شق واحد في البطن. وقد ينطفئ بعد قرن أو قرنين نجم الجراحة، وتعالج معظم الأمراض بدون جروح. وهي نبوءة القرآن أن الحرب سوف «تضع أوزارها»، وإذا كانت آية (الرق) قد نسخها الواقع وليس لها أي قيمة تشريعية، سوى أنها تذكر بوضع تاريخي تم تجاوزه، فهذا الشيء نفسه سوف يحدث مع حل مشاكل الجنس البشري، بما فيها موت مؤسسة الحرب التي تحتضر حاليا، على الرغم من أنف بوتين. وكان الطب يعالج قديما السعال الديكي بلبن الحمير، كما أن العسل كان يؤخذ والقرص يدمر. وإذا كان بوتين لم يحل مشكلة أوكرانيا إلا بالحرب، فليس لأن المشكلة غير قابلة للحل إلا بالحرب، بل بسبب عجز (الطب السياسي). ونحن كبشر كنا أطفالا صغارا لا نستطيع تنظيف أنفسنا، والحرب هي عجز من هذا النوع بالتلوث بالقذارات. ومن لوث يديه بالدم، عليه غسل يديه بالدموع. وتاريخ الجنس البشري قصير خاطف، فقد وجد الإنسان على الأرض قبل سبعة ملايين من السنين، ولكنه لم يدخل الحضارة إلا قبل ستة آلاف سنة. وأمام الأرض فرصة 500 مليون سنة أخرى للحياة.
الجهاد إذاً ليس (نشر الإسلام)، وإنما (رفع الظلم) عن الإنسان أينما كان ومهما دان. والجهاد ليس (وظيفة) فرد أو حزب أو جماعة أو تنظيم أو طائفة، بل هو وظيفة (الدولة). وثالثا ليست أية دولة، بل تلك التي تمثل الناس فعلا. ولا تصبح الدولة (إسلامية) ولو رفعت الله أكبر على العلم، فالعبرة ليست في الشعارات، بل الحقائق. وكلمة الله أكبر لا تزيد على شعار الثالوث البعثي «الوحدة والحرية والاشتراكية»، بل هي أخطر لأنها استخدام معنى مقدس لغرض قذر غير مقدس، كما فعل الرفاق حينما رفعوا الشعار المثلث، فاستبدلوا الحرية بالاستبداد، والوحدة بالطائفية، والاشتراكية بالفقر.
إنها قصة غرامنا السقيم بالكلمات. فيكسب القاموس الكلمات، ويخسر الواقع الحقائق.
والآن كما نرى حين تخلص العراقيون من (السرطان) البعثي وشنقوا صدام، نبت من رماد صدام ألف مصدوم ومصدوم. فالاستعمار الخارجي (خراج = دمل)، والداخلي (سرطان خبيث). الأول (سطحي) و(مؤلم) و(واضح) و(سهل المعالجة)، كما زعق الكبيسي العراقي في قتال الأمريكيين، وسكت 40 سنة تحت المظلة البعثية. والثاني (خفي) و(غير مؤلم) و(معقد المعالجة)، وإذا لم يعالج في مراحله الأولية انتشر إلى مرحلة النظام الشمولي، وليس أمام الأحرار إلا الفرار منه، أو العبودية. ومنه نفهم لماذا هرب فتية الكهف بما فيه كلبهم. فمجتمع الديكتاتورية لا تأمن فيه الكلاب على نفسها.
إن كلمة (الجهاد) عند المسلمين لها رنين مقدس محرض، وليس عند المسلمين من معنى مهيج كالجهاد، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالجهاد، واعتبره سنام الإسلام. واعتبرته الشيعة بندا من ثمانية بنود للإسلام؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه تحدث عن زمن الفتن بعشرات الأحاديث، وأن على المؤمن أن يعتزل الجميع في زمن الفتن، ولو أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت. أو أن يلزم بيته ويكسر سيفه، وإن دخل عليه أحد يريد قتله وبهره شعاع السيف، أن يلقي ثوبه على وجهه ويستقبل الموت، ويقلد ابن آدم الأول «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين»، ثم يعقب الرسول مستشهدا من الآية يبوء بإثمه. ولكن هذه الأحاديث مغيبة عن الوعي الإسلامي، كما أن الآيات الخمس من سورة «المائدة»، التي تحكي صراع ولدي آدم وهي من آخر ما نزل من القرآن، نقرؤها بعيون الموتى. أما آية «ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة»، فهي ليست في قاموس التداول. وقصة أفغانستان، مرورا بالعراق والبراميلي السوري، وانتهاء بتبون الجزائري، سوف تتكرر طالما أصدرت (المافيا الدينية) المتعاونة مع (المافيا السياسية) فتاوى الجهاد، لتهدر دماء الشباب المساكين المخلصين الدراويش!
وهو يذكر بقصة الحمار وذيله، ففي يوم فقد حمار ذيله في حادث، فكانت له مصيبة أليمة ومحزنة. وراح يبحث عن ذيله في كل مكان. وبلغ من حمقه أن اعتقد أنه يمكن تركيب ذيله مرة أخرى. حتى دخل يوما حقل بستاني، فعاث فيه فسادا وهو يبحث عن ذيله المفقود، فلما رأى ذلك البستاني استشاط غضبا، وهجم عليه فأوسعه ضربا، وقطع أذنيه الاثنتين وأخرجه من الأرض بالعصا. وهكذا فإن الحمار الذي كان يندب ذيله، خسر أذنيه. ويبدو أن ما ينتظرنا أكثر من هذا الحمار.
نافذة:
إذا كانت آية الرق قد نسخها الواقع وليس لها أي قيمة تشريعية سوى أنها تذكر بوضع تاريخي تم تجاوزه فهذا الشيء نفسه سوف يحدث مع حل مشاكل الجنس البشري بما فيها موت مؤسسة الحرب التي تحتضر حاليا على الرغم من أنف بوتين