مفكرون من ثقافات مختلفة في مواجهة التعصب الديني
بقلم: خالص جلبي
إذا كانت هذه عقوبة من عاقب ابن رشد، أو كانت عقوبة ابن رشد لهذه الأوضاع التي تمشي في طريق الاحتضار، فإن المحصلة النهائية واحدة، وهي نتيجة بائسة بكل مقياس لأمة تعامل الفكر المشرق هذه المعاملة، وهي مؤشر خطير لتوقف الحياة العقلية، أو انحدار مخطط الحضارة بصورة عامة، لأن الحضارة هي حياة العقل قبل كل شيء.
وقد انتبه المفكر الجزائري (ماك بن نبي) إلى هذه الوقفة التاريخية المفصلية، فاعتبر أن الحضارة الإسلامية توقفت لتفرز بعد ذلك الإنسان المتخلف عن ركب الحضارة، العاجز عن حل مشاكله، الذي يتوقف عنده الزمن كما توقف عند أصحاب الكهف بدون رسالة أصحاب الكهف؛ فاعتبره إنسان «ما بعد الموحدين»، أي إنسان ما بعد مصيبة معركة العقاب.
ولم يتوقف معاقبة أهل قرطبة الذين يصفهم (الفيلسوف ابن رشد) بأن من أعظم المواقف الصعبة التي مرت عليه، عندما أراد الصلاة في أحد المساجد هو وابنه، فقام عليه الغوغاء وأخرجوه وابنه من المسجد ومنعوهما من الصلاة، قال عنها إنها كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليه في حياته. ولا غرابة فإذا كان الخوارج قديما قد أخرجوا الإمام علي من الإسلام وكفروه، ثم سفكوا دمه من أجل الاختلاف معه في وجهة النظر؛ فإن هذا المشهد قد يتكرر تاريخيا في صور شتى في إطار التعصب وعدم التسامح.
كان عقاب أهل قرطبة مخيفا، بل عقاب أهل الأندلس جميعا فقد سقطت بعد ذلك (بالنثيا في عام 1236 م، وهي العاصمة الشرقية للأندلس)، ثم سقطت قرطبة بنفسها في عام 1238 م بعد عامين من سقوط بالنثيا، أي بعد موت ابن رشد بأربعين سنة «ولعل الذين طردوه من المسجد، رأوا طردهم جميعا هذه المرة»، لأن عادة الإسبان جرت على تحويل كل مسجد إلى كنيسة، فور دخولهم أي بلدة إسلامية. ثم تكلل الانهيار بعد ذلك بسقوط مدينة إشبيلية في عام 1248 م. وبذلك سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي بتمامه، ليتبعه بعد عشر سنوات بالضبط سقوط الجناح الشرقي للعالم الإسلامي، أعني بغداد على يد هولاكو عام 1258م. وهكذا سقط جناحا العالم الإسلامي في ظل الظروف والمناخات العقلية السائدة تلك، التي دشنت نفي وتعذيب ابن رشد في شيخوخته. وليسطر العلامة ابن خلدون بعدها ملاحظته اللامعة، بأن مناخا جديدا يسيطر على العالم الإسلامي، أعني «الانهيار والسقوط أو تفسخ الحضارة الإسلامية»، حينما أشار بقوله وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب.
وفي 4 نونبر من عام 1415 م جاء المصلح الديني (جان هوس JAN HUS)، وهو من تشيكوسلوفاكيا الحالية، إلى مدينة (كُنستانس KONSTANZ)، الواقعة على الحدود النمساوية السويسرية، ليُعرض على المجمع الديني المنعقد هناك وليُستجوب بسبب نقده المتواصل للكنيسة، خاصة في تصرفات الرهبان المالية، وبيع صكوك الغفران، وجمع ثروات الحرام. «تأمل الآية: إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم». وقد أغراه الملك الألماني (سيجيسموند SIGISMUND) بالحضور مع توفير الحماية له، إلا أنه اعتقل ثم قدم للمحاكمة بتهمة الهرطقة، واتهم في المحاكمة بكتاباته في ثلاثين موضعا منها تدينه بالكفر والزندقة والمروق عن الدين، وأعطي مهلة للتراجع عن آرائه، وعندما اعترض على ذلك وبأنه مؤمن وأن الأمر لا يخرج عن تأويلات سيئة لأقواله، حكم عليه بالحرق حيا ونفذ الحكم في اليوم نفسه، حيث وضع على منصة خشبية أمام المتفرجين تأكله النيران!
وهذا الحرق أو إلغاء الإنسان من الوجود لأفكاره فقط، كان رحلة رهيبة أثناء بدء الحركة العقلية بأوروبا، حيث تعرض جيوردانو برونو بدوره في السابع عشر من فبراير عام 1600م للحرق أيضا من أجل أفكاره ولم يتراجع.
والآن إذا كنا قد رسمنا بانوراما تاريخية لأولئك الذين يشقون الطريق إلى الحرية الفكرية والمناخ العقلي الجديد، الذي سوف يشق الطريق للحضارة، يبقى أن نختم البحث بقرار اللعنة الذي صدر أيضا ضد (سبينوزا SPINOZA)، المفكر الهولندي الذي كتب في حياته كلها أربعة كتب فقط، منها «رسالة في اللاهوت والسياسة» و«رسالة في تحسين العقل». وكما يذكر ويل ديورانت، صاحب كتاب «قصة الفلسفة»، أنه لم يتجرأ على نشر كتابه الأخير «الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي»، الذي فرغ من كتابته عام 1665م فبقي عنده حتى الموت، وعندما جاءته المنية وعمره 44 عاما، بعد أن افترس السل صدره، سلم مفتاح غرفته إلى صاحب البيت مع نسخة كتابه «الأخلاق» للطباعة، الذي حفظ لحسن الحظ.
يقول قرار اللعنة: «بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا.. وليكن مغضوبا وملعونا، نهارا وليلا وفي نومه وصبحه. ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما. وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحد، وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربع أذرع، وأن لا يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانه».
بالطبع نحن نتذكر قرار مقاطعة قريش للرسول (ص)، كما أن القرآن يذكرنا بأن إبراهيم كان أقوى من النار، لأنه اعتمد الحجة الدامغة التي لا تبهت «وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه». لذا فإن حريق العلماء بأوروبا أيضا لم ينفع، لأنهم اعتمدوا سلاح إبراهيم الذي قدح زناد النور في الظلام المخيم.