مفعول القوة.. من الإبادات إلى الاستعمار
عبد الإله بلقزيز
لا يتزيد المرء حين يدمغ تاريخ الغرب الحديث والمعاصر بالعنف الأعشى، الذي ولدته عقيدة القوة المتجذرة في اللاوعي الجماعي. الشواهد على ذلك لا حصر لها في الخمسمائة عام الأخيرة، التي هي من تاريخه الطويل حقبة التمدن والتقدم! لو أخذنا من صفحات هذه القوة السوداء مثالين فحسب – هما الإبادات الجماعية والاستعمار- لكان ذلك يكفينا كي نقف على مقدار ما ارتكبه من أهوال، وبرره لنفسه بتبريرات دينية وأخرى مدنية: «نشر الحضارة» و«تمدين المجتمعات المتخلفة».
من المعلوم، عند المؤرخين والدارسين، أن أفواج المهاجرين الأوروبيين إلى القارة الأمريكية، التي انطلقت موجاتها في مطالع القرن السادس عشر – عقب «اكتشاف» القارة في نهاية القرن الخامس عشر-، كانوا، في الأساس، من الفئات الهامشية الرثة في المجتمعات الأوروبية؛ من العاطلين واللصوص وقطاع الطرق والخارجين عن القانون؛ أي ممن كان العنف مسلكا عاديا ومألوفا في يومياتهم. ومن المعلوم أن تخلص أوروبا من هذا الفائض السكاني الهائل – الذي كان يشكل عبئا بشريا واجتماعيا عليها – كان في أساس انطلاقتها الاقتصادية؛ على ما يلاحظ ذلك، بحق، الدكتور جورج قرم. لكن تلك النوعية من المهاجرين – التي ستستوطن القارة الأمريكية وتبنيها – ستفرض على سكانها الأصليين شريعة القوة والقتل، مستفيدة من وجود إرساليات بروتستانتية أصولية هاجرت معها إلى القارة الجديدة وأجازت لها، دينيا، أفعال القتل بوصفها واجبات لا مهرب منها. ولكن، أيضا، ممارسة مخزون القوة الذي حملته معها من مواطنها الأصل.
من يقرأ كتابا من طراز فريد في التأريخ والتنقيب، مثل كتاب منير العكش «حق التضحية بالآخر»، وعشرات الكتب المماثلة الصادرة في الموضوع بأقلام أمريكية، تصدمه – على الفور- أرقام ضحايا الإبادات الجماعية التي تعرض لها السكان الأصليون «الهنود الحمر» في مجتمعات القارة. عشرات الملايين قضوا بالنيران من غير رحمة، من أجل أن تقوم على أرضهم حضارة الرجل الأبيض. كانوا يُقْنَصون جماعات وفرادى كما يجري قنص الطرائد من الحيوانات البرية، ومن بقي حيا يعمل في السخرة لاقتلاع أشجار الغابات وشق الطرق، قبل أن يستقدم العبيد السود من إفريقيا للعمل في المزارع. وبعد ثلاثمائة عام من شيطنة «الهنود الحمر» في التربية وكتب المدارس والأدب وقصص الأطفال، ستُفرِج المؤسسة الهوليوودية عن صناعة كاملة من أفلام رعاة البقر تكرس صورة «الهندي الأحمر» الشرير وصورة الرجل الأبيض المتفوق عليه ذكاء وقوة، قصد ترسيخ عقيدة القوة.
ولقد يقال إن هذه البربرية الوحشية حالة موضعية خاصة – بمن استوطنوا القارة الأمريكية- ولا تقبل التعميم، بالتالي، على مجتمعات الغرب ودوله كافة. وهذا استدراك فاسد؛ لأنه لم يمر قرنان على الاقتلاع الإسباني للعرب من الأندلس، والاقتلاع الغربي للسكان الأصليين من القارة الأمريكية، حتى كانت حركة الاستعمار تنطلق من مصدرها الأوروبي لتجتاح العالم الواقع «ما وراء البحار». كانت الرأسمالية، حينها، قد بلغت من التطور والتراكم حدا بدأت تتولد معه حاجات جديدة إلى المواد الخام والأسواق واليد العاملة الرخيصة. وقد بدت بلدان الجنوب لأوروبا مجالا حيويا لتوسعة نطاق النفوذ وتعظيم الأرباح. ثم كانت الكلمة لعقيدة القوة. لقد كتب الكثير، ووثق الكثير في الأرشيفات، كما بالصور، عن الكم الخرافي من أفعال الوحشية الرعناء التي ارتكبتها الجيوش الاستعمارية في آسيا وإفريقيا، طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والعقود السبعة الأولى من القرن العشرين؛ والتي استأنفت ارتكابها الإدارات الاستعمارية وقواتها بعد الاحتلال. ولم تكن الدواعي إلى ذلك مواجهة حركات التحرر والمقاومات المسلحة التي انتصبت في وجه الغزو والاحتلال مدافعة عن شعوبها وأراضيها، دائما؛ بل كانت – أحيانا- مقصودة لفرض الهيبة الأجنبية وإذلال الشعوب المستعمَرة. ومرة أخرى فعلت القوى الاستعمارية ذلك مدفوعة بفكرة القوة التي تسكن ثقافات مجتمعاتها.
وحين تطالب دول، اليوم، كانت مستعمرات في الماضي القريب، الدول الغربية ذات التاريخ العريق في الاستعمار، بالاعتراف بأخطائها وجرائمها أثناء الاستعمار والاعتذار عنها، من باب رد الاعتبار الرمزي إلى من وقعت عليهم جرائمها – دعك من التعويض المادي المرفوض منها- ترفض بشدة أن تعتذر عما فعلت؛ ليس فقط لأنها تخشى من مترتبات ذلك من دفع تعويضات مادية وما شابه؛ بل أيضا – وأساسا- لأنها لا ترى في مسلكها ما يشين؛ فهو «حق» لها اكتسبته من حيازتها القوة، والقوي لا يعتذر للضعيف عن إعماله ما هو حق له: القوة. مرة أخرى نصطدم بعقيدة القوة ومفارقاتها الأخلاقية.