مفارقة زينون الإيلي
بقلم: خالص جلبي
في عام 450 قبل الميلاد عاش الفيلسوف «زينون ZENON» في مدينة إيليا الواقعة في جنوب إيطاليا، وأثار تناقضا عقليا لم يفارق مخيلة الفلاسفة وتفكيرهم عبر العصور، حتى أدركت مغزاه العميق الرياضيات الحديثة المتمثلة في ميكانيكا الكم، فما هو الشيء المثير في قصة هذا الفيلسوف الذي مات وارتاح في قبره، ولكنه لم يدع الفكر الإنساني يرتاح حتى مطلع القرن العشرين؟ بل ما هو هذا المصطلح العجائبي (ميكانيكا الكم)؟ وأين ولد وعلى يد من؟ وما هي ظروف ولادته؟ وأثره على الفكر الإنساني؟ والآثار الفلسفية التي انبنت عليه؟
ولكن لنبدأ بالقصة المسلية، قصة السهم الذي لا يطير، والعداء الذي يريد السباق فتتسمر قدماه في الأرض، وإذا أراد بطل طروادة «آخيل» أن يلحق بالسلحفاة، عجز عن ذلك مهما حاول وبذل. وثق أيها القارئ أنني لا أمزح كما أن الفلاسفة هم أكثر الناس جدية، ومنهم صاحبنا الفيلسوف زينون.
إن السهم الذي ينطلق لا يطير، والقذيفة التي تندفع تبقى مسمرة في مكانها، والعداء الذي يركض في الملعب واقف في مكانه! هذه الكلمات قد يتوقف القارئ عندها ليعيد قراءتها والتأكد منها هل هناك خطأ مطبعي؟ لا… إن العبارة قد انتقيت على وجه الدقة؛ فالفيلسوف كان يعني ما يقول وهو يرى الكون يضج بالحركة من حوله، فكيف وصل إلى هذه النتيجة العجائبية؟
إن السهم حتى يطير والعداء حتى يركض، أو آخيل حتى يلحق بالسلحفاة فإن النتيجة واحدة، فلا السهم يطير ولا العداء يتحرك قيد أنملة في الركض فهو مسمر في مكانه، ولن يلحق آخيل بالسلحفاة مهما حاول وبذل من جهد! ولكن كيف؟
طرح زينون الموضوع على الصورة التالية: حتى ينطلق العداء ليقطع مسافة ما، فإنه لابد له من قطع نصف المسافة، ولكن نصف المسافة بذاتها حتى تقطع لابد من قطع نصفها أيضا، أي ربع المسافة السابقة، وهكذا فنحن بدون توقف مع حركة (نصف النصف) إلى ما لا نهاية. بكلمة ثانية فإن العداء حتى يبدأ في الانطلاق وفي كل مرة ما زال أمامه بدون توقف نصف نصف المسافة، فيبقى مسمرا في مكانه، لأن رحلة اللانهاية ليس لها توقف. ينطبق هذا أيضا على حركة السهم فهو في اللحظة الواحدة يشغل مكانا واحدا، فلا يستطيع أن يشغل مكانين في الوقت نفسه، أي هو ساكن فيه، إذ لو كان متحركا لانتقل في الحيز، ونظرا لأن مجموع حركات السهم هي مجموع (هذا السكون)، كان معناه أن السهم لا يتحرك. كما أن آخيل الذي يريد أن يلحق بالسلحفاة البطيئة، لن يصل إليها مهما حاول، لأن أمامه أن يقطع دوما نصف (نصف) المسافة التي بينهما، ولكن السلحفاة هي دوما أمامه مهما تكن المسافة تافهة، لأنه سينحبس في نصف النصف التي تفصله عن السلحفاة بدون نهاية.
ولكن مهلا يا سيد «زينون» إن ما نراه أن السهم يتحرك فيجرح ويقتل، وقذائف الروس قطعت أجسام المسلمين في سوريا وسواها من المدن، كان زينون يجيب بكل هدوء: نعم وأنا معكم في أن ما نراه أمامنا من حركة السهم وأثره واقع، ولكنني اعتبره بحكم الوهم، لأنني لا أجد سنده العقلي مبرهنا، كما أن الحجج التي أتقدم بها لا تدحض. فالتحليل العقلي البارد كما ترون يقودني إلى أن السهم لا يتحرك والعداء مسمر في مكانه، وآخيل لن يلحق بالسلحفاة. فالمكان كما ترون مكون من نقاط لا تنتهي، والزمان مكون من أنات لا تخلص، ولما كان الجسم المتحرك بين نقطتين يكون أثناء حركته بينهما خارج المكان؛ فإن الحركة تصبح ممتنعة لانعدام المكان الذي تحدث فيه.
ولفك هذا الإرباك العقلي لفهم الكون والحركة فيه تعددت الإجابات بدءا من أرسطو حتى أيامنا الحالية، مرورا بفلاسفة المسلمين الأشاعرة الذين قالوا بالجزء الذي لا يتجزأ، فتقسيم زينون يجب أن يتوقف عند حافة ما من أجل تمرير الحركة من نقطة إلى أخرى، وانتهاء بالفيلسوف البريطاني (برتراند راسل)، الذي طرح فكرة (الكانتور في اتصال الكم الرياضي) لفك معضلة زينون، عندما نتصور وجود عدد لا نهائي من النقاط بين نقطتين، فإن هذا يفضي إلى اجتماع النقاط فتتصل الحركة. فمشكلة الحركة التي أثارها زينون قديما ليست بهذه السهولة أو السخف، بل تقوم على جدل عميق، وهي في الواقع محاولة لفهم الحركة وكيف تحدث من خلال التأسيس العقلي لها، فزينون أراد أن يثبت لمن حوله أن الحركة تحدث ليس على الطريقة التي يظنون، بل لها منطق خاص، وهذا هو الذي جاءت به (ميكانيكا الكم) حديثا؛ فالعالم الفيزيائي (هايزنبرغ) الذي جاء بمبدأ (الارتياب أو عدم التحديد UNCERTAINTY PRINCIPLE) أو (اللاحتمية INDETERMINIS) أدرك أن زينون كان على حق، واختصر المشكلة على النحو التالي في الفيزياء الذرية: لا نستطيع أن نعين وعلى وجه الدقة مكان وسرعة الإلكترون؛ فعندما نريد تعيين مكانه نخفق في معرفة سرعته، وإذا عرفنا سرعته غاب عن أعيننا وكأنه الشبح، فتبخر فلا نعرف أين اختبأ. أو بكلمات زينون القديمة: «لا يمكن للجسم أن يشغل حيزا ويكون متحركا في الوقت نفسه».