مفارقات عجيبة
غالبا، عندما نذكر الأنا والآخر أو الشرق والغرب، تنساق أذهاننا مباشرة إلى علاقة العربي بالعجمي، ونفكر في الفروق بين هذين القطبين، فنرسم هالة من الجلال والعظمة على الغربي باعتباره المتفتح والمتطور والمتحضر، وصاحب النظريات والأفكار، والحرية والمساواة والديمقراطية، والسبق التكنولوجي، والسيطرة على العالم بأسلحة الدمار الشامل والمشاريع الذكية من تمويل جماعة إرهابية متشعبة الأعراف، إلى تحريض رقعة مصابة بداء العصبية القبلية، قبل مطالبة العالم بمبالغ خيالية لتوقيف الصراع بينهما، في مقابل العربي المتخلف والاستبدادي والإرهابي المختنق تحت أقدام التبعية، والمكبوت الذي يرى في طريقة اللباس عهرا، بينما عند الآخر الغربي تعتبر حرية، الفاسد الخاضع لسيطرة الغرب الذي أغرقه بالديون والمعاهدات وبالتعاون الوهمي وبالامبريالية الفكرية. العربي الذي كانت له ذات زمن جميل قيمة حين كان يرهب العدو بزيه في ساحة الوغى، ويشهد له العالم بالروائع الأدبية والفلسفية التي ترجمت ونهل منها الغرب كثيرا من قبيل المعلقات والمقامات، وكتاب «الحيوان» و«البخلاء».. ولعل «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة» خير شاهد على مجد فكري عربي، تراث غني أولاه الغرب أهمية كبيرة في حين لم يعطه العربي قيمته، بل إن الكثير من أبناء جلدتي لم يَطَّلِعوا على هذه الثروة الفكرية، هذا إن كانوا يعرفونها.
ومن أشد المفارقات أنه رغم أننا لا نبعد عن القارة العجوز أو الجنة الساحرة إلا ببضعة كيلومترات، مسافة نصف ساعة، إلا أننا نختلف عن نمط عيشها بكثير ولا مجال للمقارنة. ورغم أن مدينتي سبتة ومليلية لا تفصلهما عنا سوى أسلاك شائكة، فإن الفروق شاسعة، تعرينا على حقيقتنا وتعطي انطباعا أنيقا للغربي، وسيئا للعربي، وفظيعا للمغربي.. أين يكمن المشكل؟ في الموقع، أم في العقلية، أم أنهم يصنعون عقولا متفتحة ونحن نصنع عقولا متحجرة؟
فهم لا ينظرون إلى القادة كأنهم آلهة منزهة، وإنما مجرد أفراد من الجماعة، مع الناس وليس فوقهم. والمسؤول عندهم حين يدرك أنه فاشل يستقيل ولا يتعنت في عناد ويظل يدافع عن فشله، وعندما لا تروقه الأوضاع لا يتراشق بالألقاب القبيحة ولا يتهم الخصوم بالنعوت الواهية أو الواقعية، بل يحتج بطريقته الذكية والسلمية؛ كأن يعود من أركان المؤسسات الرسمية على دراجة هوائية أو على متن سيارة أجرة أو يستقل حافلة.. وأذكى وأبسط حل للاحتجاج أن يقدم استقالته وينصرف ليطعم البط والطيور المهاجرة في الأرياف. والثقافة هناك تُعطى لها أولوية مهمة، فنسبة القراءة في ألمانيا وفرنسا وروسيا، على سبيل المثال، تتعدى نسبة نومنا، ونسبة الجهل في مثل هذه الدول تنحدر إلى ما تحت السفر. فهم يعطون للتعليم قيمة قصوى، فهو العماد والأساس الذي ينجب العلماء والمفكرين والفنانين والمبدعين. التعليم والعلم هما اللذان يجعلان تلك الأمم متقدمة ونحن متخلفين وجائعين ومهمشين، نقامر بحياتنا في البحر للوصول إلى تلك الضفة التي تتحكم في العالم بتكنولوجيتها وعلمها وفكرها، وترسم ملامح المستقبل على هواها.
وحبهم أيضا يختلف عن حبنا، فهم يبحثون عن الحب ويسقونه حتى يترعرع، ونحن نبحث عن المادة ونركل الحب، أو نهدر العمر لنجمع بينهما فلا ندرك أحدهما. الرجال يبحثون عن نساء غنيات أو على أقل تقدير يكنّ موظفات، والنساء يبحثن عن رجال أسخياء ينفقون بلا حساب ويمتلكون رصيدا محترما في البنك وسيارة من موديلات الألفية الثالثة وبيتا مستقلا عن الجيران أو بمحاذاة جيران محترمين وأسخياء أيضا.. أما الغربيون فليس المال شاغلهم الأوحد بل يبحثون عن متعة الحياة، لأن موطنهم يوفر لكل مواطن ظروف عيش محترمة، ويفتح أذرعه على مصراعيها للمقهور قبل الميسور، فضلا عن أنه يحترم حرية الفرد في اختيار المجال الذي يلائمه والذي يحبه.. أما عندنا فندرس حتى يشيب رأسنا ويتجاوز عمرنا الأربعين ولا نحفل بعمل، بل نظل رهن عقدة العمل، فبالأحرى أن نختاره بحرية.. نظل نتردد على الدجالين لفك السحر الذي نتوهمه، نزور الأضرحة للتبرك، نعانق سبع أمواج لدحر النحس، نتوسل فقيها من أجل الرقية الشرعية وما شابه ذلك، ولا ننعم بعمل رغم المحاولات، بل تكفي زيارة مسؤول مهم، ومصادفة سمسار شغل من الذين اغتنوا بسرعة واشتروا الفيلات والأراضي في الأرياف، ويكفي بيع قطعة أرضية أو عقار أو مقايضتهما مع سمسار من أجل شغل منصب. فالمال عدو الحرية والديمقراطية في هذا الزمن. الناس يجرون من أجل المال. وكل شيء أصبح بالمال، فحتى رحمة الوالدين بالمال، المتسول وفقيه المناسبات إذا لم تمنحهما المال لن يترحما على أمواتك.
فكم من أحلام طبيب وشرطي ومهندس ومعلم وطيار أجهضت. هنا لا حق لك في الاختيار، لأن لا وجود لما يمكن اختياره. بل تجد زوايا البطالة تكدسك كالخردة. هكذا تصنع الفروق هوة كبيرة بيننا. أما الزواج فمعضلة كبيرة، ينشأ عند الغرب عن طريق قناعات فردية، الفرد عندما ينضج ويصبح مسؤولا عن ذاته، يستقيل عن الأسرة ويسلك مساره الخاص، يختار وظيفته وشريكة العمر بحرية. أما عندنا، فالجماعة تتدخل في كل شيء، تدفع رشوة من أجل الوظيفة، وتتدبر المسكن ولوازم الزفاف وأمورا أخرى، لأن لا قدرة للفرد على الاستقلالية، فالدولة تكسر جناحيه بكثير من العراقيل والحواجز. وأحيانا تجد الجماعة هي من تتدبر كل شيء، هي من تقرر اختيار شريكة العمر وهي من تتفاوض على الإجراءات، وكثير من الخصوصيات، فيضطر الفرد إلى موافقة الجماعة وإلى دعم الجماعة. هكذا تصير حريتنا مهضومة وحرية الغرب مفرجة، وأجنحتنا مربوطة وأجنحتهم منتفضة.
هناك أيضا ميزة أخرى يتفوق علينا بها الغرب. فهم يحسنون فنون التواصل، أما نحن فإن أكبر مشاكلنا عقدة التواصل. رب العمل لا يريد أن يتواصل مع العمال لأنهم أدنى منه، والمسؤول الحكومي لا يريد التواصل مع الشعب لأنه يعتبر نفسه أذكاهم وأولاهم بالقرار، والأستاذ يعتبر نفسه قديسا ولا يحق للتلميذ مناقشته في أي مسألة، والويل لمن يعارضه في فكرة أو يصلح له خطأ، والمشاكل العائلية والأسرية لا نفكها بالحوار بل بالحرب والغضب. أينما وليت وجهك هنا تصدمك العتبات، وتقهرك الأقنعة الممسوخة التي تسمسر في كل شيء، ويحاصرك قانون المال من كل اتجاه.